Atwasat

خلط متعمد لمآرب أخرى

صالح الحاراتي الثلاثاء 09 أكتوبر 2018, 11:46 صباحا
صالح الحاراتي

هناك عبارات تتردد كثيرا ولا ننتبه لدوافع قائلها، وأظن أن من يسوق لها يريد إملاء فهم معين ليرسخ فى العقول تأويله وفهمه ورؤيته، وذلك من كثرة ترديده لتلك العبارات حتى تصبح مسألة مسلما بها من الجميع، من باب التماهي مع قول الألماني جوزيف جوبلز مهندس ماكينة الدعاية الألمانية لمصلحة النازية وأدولف هتلر«اكذب، اكذب، ثم اكذب حتى يصدقك الناس"، أو إيمانا بـ "الزن ع الوذان أفعل من السحر"، وبالمقابل هناك من يرددها بعفوية ويظن أنه بذلك ينال رضا الجميع.

يقولون مثلاً:
نريد حاكما ولاؤه لله ثم للوطن
نريد جيشا ولاؤه لله ثم للوطن
لا أدري مدى مصداقية من يردد هذه الأقوال، ولِمَ الإصرار على الذهاب إلى هذه الثنائيات وما سر التفريق بين الله والوطن!. ولم أولئك مولعون باختلاق ثنائيات لا وجود حقيقي لها ولا معنى لها إلا استنزاف ملكة التفكير في غير موضعها وتلويث عقولنا بمفاهيم مشوهة وإنحيازات بغيضة ومتاهات واختلافات وهمية، ولم هم مغرمون باصطناع المعارك المفتعلة ويصرون على خلق التضاد والتنافر ويسألون مرارا "الدين أم الوطن؟".

لا أظن أن هناك تضادا بين الدين والوطن. فالدين أمر يقيني شخصي يأتي لاحقا لوجودك كإنسان تعيش فى وطن ما، والوطن مظلة يستظل بها جميع أهله بمختلف قناعاتهم، ويفترض أن هوية الإنسان الدينية يكتسبها من خلال إيمانه برسالة من الرسالات السَّماوية وليست بمولده فى مكان محدد، ولذلك يفترض أنها تأتي متأخرة عن اكتسابه للهوية الوطنيَّة التي يكتسبها من خلال كونه جزءاً من شعب جمعت بين أفراده روابط العيش معاً في الأرض والتاريخ والثقافة التي تشمل اللغة والعادات والتقاليد والتجارب.

للأسف فى زحمة الشعارات الفضفاضة التي دأب الإسلامنجية على تمريرها هي حكاية ربط الولاء للوطن بالولاء للدين، ليصلوا بنا إلى فهمهم لما يسمونه الولاء والبراء، بينما حقيقة الأمر كما أراها، أن الانتماء لـ"دين" وهو الإسلام، والانتماء لـ "وطن" وهو ليبيا، وأيضا لـ"إقليم سياسي" وهو الشرق الأوسط، وإلى أفريقيا والبحر المتوسط أي بالمجمل الانتماء في حقيقته هو انتماء "لثقافة" هي خليط من حضارات إنسانية مختلفة، ولا وجه للتضاد والعداوة بين ذلك كله؟ فالإنسان حصيلة كل ذلك..

إن الدين ليس أرضًا أنتمي إليها ولا ليبيا دينًا أدين به، والإنسان كائن اجتماعي ولديه دومًا حالة من التعطش للانتماء في كل جانب من جوانب حياته يريد ملأها بما تستحق وإلا لشعر بالوحدة، يريد كيانًا أكبر يستمد منه القوة ويخلص له المشاعر فيشعره بالقيمة وأهمية الوجود، وإذا لم يجد وطنا آمنا يحتضنه ويؤمن له العيش الكريم والأمان اتجه إلى وطن أصغر مثل قبيلته وعائلته أو نادٍ كروي يشجعه وينتمي إليه.

إن المعتقد والدين والسياسة، هي من الأمور التي لا علاقة لها في اكتساب الهوية الوطنية لشعب ووطن، فالإنسان ينتسب إلى شعبه ووطنه من خلال تلك الروابط الجامعة له مع غيره من بني قومه والتي نشأت في الغالب منذ ولادته، وتلك الروابط مع شعبه ووطنه، هي في الأصل سابقة على الدعوة الدينية التي جاءت إلى مجموعات بشرية لها شعوبها وأوطانها.

الإنسان كائن اجتماعي ومخلوق يقيني يريد إلها يعبده وطريقة يتقرب بها إليه، يريد أناسا حوله يتخلقون بأخلاق حميدة، كل ما سبق حاجات في ذات الانسان وهو دائم البحث عنها ، وهي كلها تتكامل مع بعضها لجعله إنسانًا ذا قيمة .
لذا لا معنى لاختلاق معارك لا وجود لها وثنائيات لا تعارض بينها.

نحن في أمس الحاجة لمغادرة محطة الاصطفافات الوهمية واللعب على لغو الشعارات الداعية إلى الفرقة وتشتيت الجهود، حاجتنا ملحة للعودة إلى البديهيات في هكذا مناخ مشحون.