Atwasat

بنغازى 1961 (1 /2)

سالم الكبتي الثلاثاء 09 أكتوبر 2018, 11:40 صباحا
سالم الكبتي

مطلع ذلك العام بنغازي تنهض من نومها. تتثاءب. تحك عينيها. تنظر إلى الشمس والصبح يتنفس. الحركة في الشوارع والأزقة صوب المدارس وجهات العمل ونحو الميناء وسوق الجريد والظلام والفندق البلدي.

الحياة تضج في بنغازي مطلع العام. ودعت عام 1960. فيما إطلالة العام الجديد تشير إلى قدوم العام العاشر لإعلان استقلال من تلك الشرفة في الشارع الرئيسي للمدينة التي كانت صغيرة. استعدادات للمناسبة واستقبال الضيوف من أنحاء متفرقة يشكلون أشقاء وأصدقاء. قطعت الدولة المشوار على جسور متعددة من المتاعب والتربص والجوع والرماد والحاجة والمساعدات وثمة بشائر نهضت مطلع العام أيضا تشير بوضوح إلى قرب تدشين أول شحنة من بترول الأرض الليبية إلى العالم عبر أنابيب البريقة.

مطلع العام وعيد للشجرة يحتفى به كالعادة. تزرع الشتلات المختلفة في الضواحي ومناطق المدينة المجاورة ثم أمطار وعواصف وسيول تعيق الحركة وتحدث بعض المشاكل في الصابري والزرايب والكيش وجليانة والحميضة. أودية تحركت بقوة صوب المدينة من الأطراف وغمرتها بالمياه وصار لون البحر في بنغازي أحمر مثل الطين.

بنغازي مطلع العام. المقاهي والحكايات وأصداء أخبار الجزائر المتجددة وتعليقات أحمد سعيد وحديث متكرر عن أغنية جديدة أعطت تطورا معاصرا للفن الليبى.. طيرين في عش الوفاء. ظلت أغنية الموسم وفي صدارة برامج الإذاعة ومايطلبه المستمعون وطبعت في اسطوانات ورددها الشباب وحكايات أخرى عن مباريات الكرة بين الأهلي والهلال وإعادة لانتخابات جرت فى الصابري ودعايات وفوز وفشل في الدائرة. دائما ثمة مشكلة في الانتخابات سواء على مستوى التشريعي أو النواب تتدخل العائلة والقبيلة. تتدخل الحكومة من بعيد لا ترغب صراحة وجود بعض من الوجوه المرشحة. لاتريد صداع الراس ثم يهدأ الضجيج في كل الأحوال. ويغدو الربيع مبهجا في ريف المدينة. قعمول وعرايس وكريشه وغرمبوش وزهور القرعون ورحلات الأصدقاء وذكريات تتجدد ولقاءات ثم العودة إلى المقاهىي أو الأندية أو المرابيع وليس ثمة أمكنة أخرى.

يقترب الصيف. حرارة وقيظ ومشروب البورتيلو يطفيء اللهيب أو البيره المثلجة.
الهروب إلى جليانه وبير الكلبه وبحر الشابي ثم ينعى الوطن شاعره أحمد رفيق وتبكيه الجموع وتودعه بنغازي وداعا كبيرا يليق بالذي قال وردد بلا انقطاع: وداعا أيها الوطن المفدى وتبقى على خير ياوطنا بالسلامه. تخبو أضواء العرودي وبيت المحيشي ويشعر الرفاق بالوحدة من الذين أظلتهم الجمعية وتحس بنغازي بالفراغ كما الوطن. كما الأرض.

والصيف لاهب في بنغازي تلك الأيام. حرارة ورطوبة تتلازمان ولاتفترقان. والأحاديث عبر أجوائه ساخنة أحيانا مثله والقضايا والموضوعات وتظل الصباحات جميلة تتنفس وتفتح نوافذ بنغازي وأبوابها على النور. وتتوالى أحداث دفعة واحدة في بنغازي ذلك الصيف.
في يوليو يلقى القبض على مجموعة من شباب البعث وينقلون إلى طرابلس. محاكمات وأحكام وفي كل الأحوال اعتبرت القضية بكاملها جنحة لاغير. الفراغ يدب مثل النمل فوق الجدران وأعتاب المدينة والوطن والشباب تتلقفه أياد أتت من الخارج لتعمل في ليبيا. أطباء ومعلمون من العراق وسوريا والأردن وفلسطين السليبة ويؤمن الشباب بأن العروبة لاتموت في ليبيا ويتحدون باسمها الفناء، لكن لا أحد يشاطرهم الاعتقال في ذلك الخارج. تركوهم وحدهم كما هي العادة دائما. لم يعلم بهم أحد. لم يكتب عنهم أحد. لم يدافع عنهم أحد. قضوا العقوبة وأعفي عن بعضهم وعادوا لممارسة حياتهم العادية وأدركوا لاحقا أن الذي حدث لم يكن ليحدث لولا الفراغ الذي يأكل في جوفه كل شيء. الفراغ السياسي والاجتماعي والعاطفي والانتماء الحقيقي وعدم وجود خطة وطنية لمواجهة أية استقطابات أو محاكاة أو إرهاصات قادمة من البعيد. وفي اللحظة نفسها يصار إلى القبض على إبراهيم حماد أحد قيادات العمال ذات ليلة. كان البوليس في حالة طواريء ويتابع موضوع البعث أوقفه للتفتيش ومعه صديقه محمد الفيتوري.

وتشاء الصدفة أن تكون مع حماد مخطوطة كتاب ليبيا العربية في مفترق الطرق أعده للنشر مؤلفه محمد عبدالرازق مناع وسلمه لصديقه حماد الذى يدير في الوقت نفسه مطبعة خاصة ليتولى طبعه وإصداره.
أخذ الموضوع اتجاها آخر. لم تعد تهمة المنشورات أو الانتباه للبعث مجدية. هذا موضوع آخر. هذه قضية جديدة. كتاب يستهدف السلطة بالنقد الحاد. تولت المباحث الأمر وفتحت ملفاتها. تحقيقات ومحاكمة وعقوبة بالسجن للرجلين امتدت إلى عام 1964 وظل المخطوط ضمن محرزات القضية ولم ير طريقه للنشر حتى الآن.

أحداث تتوالى وتتلاحق وبنغازي تنام ثم تنهض من نومها على وقائع أيام جديدة وقصص أخرى. دائما القصص في بنغازي والحكايات تتجدد ولاتنتهي . بعد ذلك بأيام والبلاد تستعد للعيد العاشر وتدشين شحنة البترول تتابع جهات الأمن والنيابة موضوعا نهض فجأة وتربط التفاصيل ببعضها وتقول إنها اكتشفت تنظيما نيته قلب النظام بالقوة والإرهاب من خلال حزب الوطنيين الاحرار الذي وصلت تهمته الكثير من المسؤولين في الدولة بمن فيهم ولي العهد نفسه!. فما الذي حدث بالضبط؟.