Atwasat

ليبيا الغرائز المفخخة

نورالدين خليفة النمر الأحد 07 أكتوبر 2018, 10:28 صباحا
نورالدين خليفة النمر

نكتب بفاهمة التفاضل والتكامل متوّخين بداهات العقل، وقد أحاطت بنا غرائز الآخرين القاتلة من كل جانب، فنترك إحباط السياسة، وننأي بأذهاننا ليس عن ليبيا فحسب بل عن العالم، وغربه الديمقراطي الذي تقتحمه من جديد غرائز الشعبويات السياسية التي عانت ليبيا نسختها العالمثالثية ـ الأوتوقراطية الغريبة لـ 42 عاماً متواصلة. ونعرض في خطاطة ما لخصه الكاتب فريديريك بوبان بصحيفة اللوموند: بأن الأمور في ليبيا يبدو أنها ستستمر في حالها طريقاً مسدوداً تتقاسمه الميليشيات والمافيا الكاسرة والمجموعات الإرهابية ولاتبدو في المدى المتوسط، انفراجةٌ تلوح في الأفق، وأن البدء من جديد والاستناد إلى مشروعية صناديق الاقتراع هو الوهم الخادع لتكرار انتخاب نفس المسؤولين الذين فاقموا الفوضى الليبية منذ العام 2012، والعودة بالبلاد إلى نقطة الفشل الأولى.

صورة قدر سياسي ملغوم بالكآبة ننفذ منه بتشويق الفلسفة والتوطئة التي اقترحت لها عناوين كعظمة الفلسفة، وبهجتها، ومدرسة الحكمة، ومشكلة الفلسفة، إذا وضعنا بين أعيننا محنة الفيلسوف سقراط السياسية الذي اتهمته ديمقراطية أثينا بتضليل شُبّانها وعاقبته بتجرّع السُمّ، الذي تجرّعته نفسياً، بإجباري عام 1989، أن أدرّس الوعي السياسي لطلبة الأقسام العلمية منهجاً مُبرمجاً من مكتب اتصال اللجان الثورية ومفروض تدريسه بالأولوية على قسم علوم السياسة وبالتبعية التاريخ والفلسفة التي تبدّل إسمها بالتفسير للأيديولوجية العالمية الثالثة وكتابها الذي اختار اللون الأخضر بديلاً عن حُمرة الشيوعية وسواد الرأسمالية.. كانت تجربة ـ رغم امتعاضي منها أن تكون بدايتي ـ عرفتني على طلاب جنوب يمنيين يساريين وسودانيين قوميين وأفارقة أفريقيين. جلبتهم التوجهّات الأممية لجامعة ناصر وكان عميدها الذي تقصدني بتعكير مدخلي لتدريس الفلسفة من بطانة النظام صار بعد ثورة 2011 محلّلاً للأزمة الليبية عبر البث الفضائي من باريس. ورغم ذلك تحايلنا أنا وطلابي غير الليبيين على المحتوى السطحي الموّجه، وفتحنا بحذرنقاشاً مُشرعاً على قضايا شيقة كتغيير العالم بالقلب الماركسي لجدل هيغل المقلوب على رأسه، وحرق المراحل لا بالفوضى الزاحفة بل تنويرها بالتأني العاقل والانتهاء بالثورة الدائمة، إلى الثورة المغدورة أو الدولة الناجية من الفوضى، ومعوقها بقابلياتنا كعالمثالثيين للاستعمار التي تفضحها اليوم ماسميّت بثورات الربيع.

عندما رجعت للعمل بجامعة طرابلس 2012، في عين زارة التي كانت مسرحاً لعنف الميليشيات من 26 .8. 2018 ولمدة شهر، اضطررتُ ممتناً عوضاً عن أستاذها الذي اختار تقاعده المبكرّ تحمل عبء تدريس مواد فلسفة العلوم وتاريخه والمنهجيات لطلاب جُلهن فتيات ترجع أصولهن من ألقابهن إلى مناطق الميليشات المهاجمة يقطُنّ في الحيّ الواقعة فيه كلية الآداب جنوب شرق العاصمة. ولاحظت أنهن يعانين عجزاً فادحاً في المدخل إلى الفلسفة وكثيرات رحّلنه ـ لصعوبة فهمه ـ درس المنطق الصوري لتنظيم الفكر إلى فصول قادمة. وها أني اليوم تقريباُ أقدم على الكتابة في السياسة التي درستها في ألمانيا لمعادلة شهادتي الليبية، فيلجئني عنف التنازع الأهلي بأحداث فجر خريف ليبيا 2014 والمستمر حتى اليوم، وقبله إحباطي بإقحام إسمي في قوائم توابع الدكتاتور وتطبيق قانون العزل السياسي 2013 بحقي، فلم يكن من بُدّي إلا التشبت بالوعي السياسي توّجهاً مُضاداً للاوعي الديماغوجي بوجهيه الشعبي والدكتاتوري الذي انسللت منه إلى ألمانيا عام 1992، وتوفقّت أن أفلت من الأوّل خريف 2014 والذي ينجح حتى اليوم بأن يستبطن فشل الدكتاتورية ويقحم ـ فيما كتب بوبان ـ ليبيا في شبكة الآمال التي تحيط بها الغرائزالمفخخة.

في تصوري أن العلم بأساسه المنطق والفلسفة يشاقيان بعضهما بالمغالبة والمصابرة وحبل المَسد الرابط هو المنطق الصوري الأرسطي نسبه للفيلسوف مكتشفه والذي لاعتبارات تتعلق بتطور الرياضيات الحديثة تم رفده بها، فتوّلدت مادة المنطق الرياضي فصارت ملزمةٌ للمختصين بالفلسفة درسَها حتى ولو كانت درجاتهم في تحصيلهم المدرسي ضعيفة في الرياضيات جبرا وهندسة. إلا أن المنطق الصوري لايزال يُعمل به، فقد استخدمه الرياضي البريطاني مايكل عطية للبرهنة على "فرضية ريمان" التي استعصى حلها على الرياضيين 160 عامًا، وفي مؤتمر بهايدلبرغ ـ ألمانيا الشهر الماضي استعمل من طرائق المنطق الصوري في عرضه طريقة البرهان بالخُلف عبر إثبات صحة الفرضية الأولى، وإظهار أنها لو لم تكن صحيحة لانتهى بنا الأمر لتناقض معيق. لكنه فشل في إقناع جمهوره بحلّه الرياضي الذي كان "بسيطًا نسبيًا" لحل مثل هذه المعضلات بل ربما كان فيه تبسيط شديد يجعل تصديقه صعبا على المختصين.

نبتدئ طُلاباً العام الأول المرور بالفلسفة اليونانية التي تهيمن عليها أخلاقية سقراط المعروضة في المحاورات الأفلاطونية وفنون جدله ضد السفسطائية، التي تلفتنا فيها محاورة الجمهورية نظرية في المعرفة تكون أساساً للمدينة الفاضلة التي تسعى إليها السياسة. بعد أن نتجاوز ذلك ندخل الفلسفة الحديثة المبتدئة بديكارت وكتابه مقالة المنهج، ونعلم باندهاش أنه مكتشف حساب التفاضل والتكامل, الذي قوّض جزءاً كبيراً من مسلّمات الرياضيّات الإغريقية الكلاسيكية، لترتسم في عام 1900 عبر عالم الرياضيات الكبير ديفيد هيلبرت ملامح طريق لمناطق غير مستكشفة من الكون الرياضي بحل المسائل الـ 23 ـ بقيت منها اليوم 6 ـ واحدة تلو الأخرى، ولكن واحدة منها لم تكن كمثيلاتها، إذ كانت تتطلب ربط الكون الرياضي بآخر حقيقي في: معادلات نافييه- ستوكس المفيدة في وصف كل أنواع الأنظمة الفيزيائية بنظام من المعادلات التفاضلية (Differential Equations) تصف ـ مع الأخذ في الاعتبار بعض الظروف الخارجية مثلما في أزمات السياسة ـ كيفية تغير كمية معينة على مدى الوقت: في الاضطراب الدراماتيكي الجميل عندما تقوم بتقليب الكريمة في كوب قهوتك الصباحية. أو الصعوبة في المفاجئ الذي يُحتمل أن يكون خطرا في الموائع الأخرى فضلا عن الغازات، ومثالها تدفق الهواء حول سيارة أو طائرة حيث يكون من الصعب شرح ماذا يحدث إذا قمت بقياس سرعة واتجاه تدفق المياه في جريان مضطرب في الأنهار والبحار المتدفقة كالهبات التي تسميها السياسة والتاريخ ثوراث، والأمواج المتكسرة الثورات المرتدة على نفسها لتصبح هبّات وتدفقات فاشلة .