Atwasat

رذيلة التخلف في عصر التقدم: عجزنا إزاء الطبيعة

عبد الكافي المغربي الإثنين 01 أكتوبر 2018, 11:12 صباحا
عبد الكافي المغربي

ربما أصبح القراء لا يُضجرُهُم شيء أو ينفرهم خطابٌ ضجرهم من مقالاتنا الممعنة في التجريد، ونفورهم من خطابنا الخافق في سماء الافتراض مُنكرا أي أمل في استحداث اليقين، واستخراج الحل الوافي الذي تتطلع إليه الأنفس، ورأينا أن نستدرك من قبل أن نُصفِر من النقرات ونكتب عن حدث يحيط بنا، ويفعل فعله في اليوم أكثر من فعله بالأمس، وربما سيفعل في الغد أكثر مما يفعل الآونة، ذلك الذي يبعث نشاط الكتابة ويحض على استنطاق الحاضر واستجواب المستقبل.

غامت في هذا العصر أغلب المفاهيم والعقائد كالفلسفة والدين، الأيديولوجيا والكفاح الثوري، القومية والهوية، وغير هذه من صنوف الإيمان التي كانت في أمس العالم أقرب إلى جواهر أصلية يعجز الفرد عن تصور عالم يخلو منها، وأخذت طلائع ما بعد الماركسية تُغير على كل عقيدة أو توهم أو تعصب بُذلت فيه الأرواح العزيزة فتزيلُه من الوجود، وتجعل الارتداد إلى أي منها يبدو سخيفًا ومُسترذَلا.
وإذا كانت هذه الحال من غموض المصير وتجلي الاكتفاء من الحدوث، سواءًا في المسرح السياسي أو الصعيدين العقائدي والروحي، نقول إذا كانت هذه الحال التي يأبى التاريخ تسود دول الاقتصادات العملاقة، فإن من علامات بؤسنا الذي لا تخطئه العين الطارفة أن نتحدث نحن في هذا العصر التكنلوجي عن حقوق الإنسان ودولة القانون والقيادة النزيهة والاقتصاد الحر، وأن تجأر أصوات من بين أظهُرِنا تشنع على مطالب هذا العصر التي تضمن كرامة الأمة وتحصنها من الاستعباد الخارجي، موظفة كل سلطان لتحديد الإصلاح وتضييق نطاق الحرية العقلية، أو أن نتخبط بين تعثر ونهوض في معارج التغيير السياسي والتعبئة الشعبية.
ومن علامات التخلف الصارخة المتجردة من الاحتشام ما شهدنا في طرابلس وما لعلنا نشهده في كافة مدن الساحل من قهر الطبيعة، بالزيادة إلى الطغاة والسراق، للإنسان الليبي العاجز وتسلطها عليه، مضيفة إلى عذابه الأول ثِقلًا وعِبءًًا جديدين.
لم يكن الإنسان الراقي في مصاعد التقدم مطالبًا فقط بأن يدرأ عنه أنانية غيره ويدفع بشخصيته الفردية مشهرا مطالب تحرره في الجماعة الواحدة، ولكن أيضًا كان على الإنسان الذي ابتلعته عصور تحيطها الظلمات أن ينتزع حريته من سلطان الطبيعة الرهيبة، وكان يحقق مكاسبَه في هذا المضمار ببطء شديد ترده الانحرافات إلى الوراء في بعض الأحايين، ولكنه يعود فيتقدم برغم ذلك، ليفضي به تغلبه على المحيط إلى تحديد أهداف تالية، وإلى تضخيم أمكاناته جميعا لخوض معارك العصور الحديثة.
ذلك أنه من أبين علامات التحضر القدرة على تفادي غوائل الطبيعة واستغلال ثرواتها لصالح الإنسان، والفرد الذي تشكل الطبيعة له هاجسا وتؤرقه ما تلوح من انقلاباتها لا يكون إلا بدائيا سادرا يبْعُد أمل إصلاحه وبعثه على الوثوب في عصر السرعة، ولن يكون بإمكان أيٍ كان أن يذكره بالمخاطر الجمة التي تهدد وجوده أو استقلاله أو تطالبه بمباشرة معاركه في الصعد الثورية.
وأحرى بالمواطنين إذ يذكِّرون مرارا بحلول الشتاء وهم يهيبون بأن تُعَّد له العدة لإصلاح شأن المدن التي ستعوم والبيوت التي ستتهتك أن يحيطوا بجدية بظاهرة التخلف الليبي بالقياس إلى بعض دول العالم العربي، وغير النفطية منها بالخصوص، وما ألزمنا أن ننظر بهَولٍ إلى الشقة الحضارية والمسافة الإنسانية البعيدة التي تفصل بين من يعيش فوق هذه الأرض المستضعف أهلها، ومن أنعم عليه القدر بأن تكون أنوار الغرب أول ضوء يَسطَع عينيه.