Atwasat

كنوز تسرد التاريخ

محمد عقيلة العمامي الإثنين 01 أكتوبر 2018, 11:07 صباحا
محمد عقيلة العمامي

في أواخر خمسينيات ومطلع ستينيات القرن الماضي كانت مراكب صيد الإسفنج اليونانية ترسو برصيف (القبطنارية)، بالجهة المقابلة لقصر المنار. هناك كان رصيف الصيادين، وفي الأعياد يكون ذلك المربع بالرصيف هو نقطة تجمع أطفال العيد، يغرينا الصيادون برحلة بحرية مقابل نصف قرش لرؤية السلحفاة البحرية وهي تلد! وتأخذنا (الفلوكة) حتى (البوغاز)، وما إن نصله حتى يخبط البحار بمجذافه سطح الماء، فتتجمع فقاعات الماء، فيقول للأطفال المتربصين: "يا خسارة (الفكرونه) غطست!" ويعود بهم نحو الرصيف.

ذات مرة فيما كنت عطشان للغاية، شاهدتُ البحارين يتناوبان شرب الماء بـ (طاسة) شاهي صغيرة، ويضحكان وعندما طلبتُ منهما شربة ما زادت ضحكاتهما وأخبراني، أنه ليس ماء ولكنه حليب سباع! ولم أعرف هذا الحليب إلاّ بعد أعياد عديدة! لقد كان حليب السباع هو المشروب الكحولي؛(البوخة) التي اشتهر اليهود بتقطيرها.
كانت مراكب صيادي الإسفنج اليونانية ترسو غير بعيدة من قوارب الصيادين، وكان يحلو لنا كصبية نناكف (الرقريق) بكلمات يونانية تعلمناها من أطفال الجالية التي كانت تعيش معنا في شوارعنا؛ التي كانت تسمى آنذاك (شوارع النصارى) وهي تشمل شارع محمد موسى، و(فياتورينو)، وزواره ومصراته، وسنتا باربرا، وهي إجمالا تلك الشوارع القريبة من البحر، والتي تبتدئ من شارع الاستقلال حتى التقائها بشارع عمر المختار.
كنت أرى بحارة كبار السن، يتشمسون على دكة المراكب اليونانية، وكانوا ككومة من أسمال بالية.. كان لا شيء يتحرك فيهم سوى أعينهم. وعرفت فيما بعد أنهم كُسحان! تصورت حينهم أنهم أقارب الصيادين وجاءوا بهم للترويح عنهم، فقد كنا نعتقد أن اليونان هناك قريبة، بعد( القوالب) الإسمنتية مباشرة، وهي التي تشكل حاجز الميناء ناحية الشمال الغربي.
فيما بعد، أعني بعد اهتمامي بالبحر وصيد مخلوقاته، عرفت أنهم غطاسون وأن ما حدث لهم هو تجاوز العمق المسموح به للإنسان وإلاّ انتهى به الحال كسيحا، لأنه قبيل اكتساب أدوات الغطس الحديثة المتطورة، كان مكوث الغطاس في عمق يزيد عن 48 مترا لأكثر من 18 دقيقة يعرضه لآلام مروعة وأمراض تصل حد فقدان قدرة الأعصاب على أداء وظائفها وبالتالي الكساح الكامل. قدر أن الغطاس في ذلك الوقت لا يستطيع أن يعمل أكثر من ثلاثين دقيقة في اليوم الكامل، وذلك بسبب ضغط أطنان المياه على جسمه بسبب اندفاع النتروجين إلى داخل أنسجة الغطاس ودمه فتكون حينها مصيبته.
من بعد تطور تقنيات الغوص صار بمقدور الغطاس الوصول إلى مستويات أعمق، ثم تطورت الابتكارات فجعلت القاع العميق مرئيا مع إمكانية الوصول إليه بمعدات متقدمة.
الكثير من المعلومات التاريخية القيمة وصلتنا من تطور هذه المهنة، التي لم تعد بخطورة زمان، وتفرد البحر الأبيض المتوسط بهذه المعلومات بسبب أنه كان بحر الحضارات التي سادت من قبل: الفرعونية، الفينيقية، الإغريقية، الرومانية، والإسلامية، أبرزت ثمار هذه الاكتشافات المبلولة التي قبعت حقبا في القاع وكثير منها أخرجوه مثلما كان عند غرقه.
كنوز هذه الحضارات ظلت قابعة في أعماق البحار، واستفاد الإنسان منها الشيء الكثير، خصوصا من المتوسط، لأنه صفافٍ ، ودافيء، وتياراته قليلة وكذلك مده وجزره.
هذه الكنوز تزيد كل يوم، الكثير من معرفة ابتكارات كان يعتقد أنها وليدة العصر الحديث، في حين أنها معروفة منذ آلالف السنين. ولقد ظللتُ لسنوات أجهل لِمَ يثبت الصيادون في مرفأ بنغازي كتلا من الرصاص في نواح متفرقة من غاطس المركب، إلى أن تجرأت وسألت أحدهم، الذي تأخر أياما في إنزال مركبه بسبب كتل الرصاص هذه، فأخبرني أنها تمنع تآكل الأجزاء المعدنية. وعندما أمعنت البحث عرفت أن ثمة تيارا كهربائيا يسري ما بين معدنين مختلفين تحت الماء فيتسبب في تآكل أحدهما. ويكتشف علماء العصر الحديث، من كنوز الرومان المدفونة والمبلولة أن الرومان على الرغم من أنهم كانوا يجهلون هذه الكهرباء، إلاّ أنهم كانوا يغطون الأجزاء الغاطسة بصفائح معدنية تمنع وصول ديدان البحر لنخر هيكل السفينة، وكانوا يثبتونها بمسامير نحاسية يطلون رؤوسها بالرصاص وبذلك يقف التيار الكهربائي الذي يستهلك المعادن.
ولقد سلب الرومان الغزاة منذ 2000سنة كميات هائلة من الكنوز اليونانية المتمثلة في تماثيل تنبئ بمدى تطور الإغريق في النحت، غير أن بعض سفنهم غرقت وظلت قابعة في الأعماق إلى أن تمكن تطور الغطس من الوصول إليها وإخراجها من المياه اليونانية خلال الفترة من 1900 إلى 1928، ومن المياه التونسية سنة 1907 وكانت محملة بتحف من هذه الكنوز لعل تمثال الإله (زيوس) المنتصب بردهة الأمم المتحدة بنيويورك والذي أهدته إليها اليونان أحدها.
واستخرجت قطعة معقدة برونزية متآكلة من أعماق البحر وتركت جانبا إلى أن عكف عليها علماء فرنسيون بعد 55 عاما يدرسونها ويكتشفون أنها قطعة من جهاز بالغ التعقيد يعطي معلومات فلكية دقيقة مدهشة.
إن هذه الاكتشافات هي مفاتيح العالم الحديث للماضي، فثمة سفينة غرقت بالقرب من سواحل تركيا منذ أكثر من ثلاثة آلاف عام، وتمكنت بعثة دولية من انتشالها ليجدوا بها الكنز الوحيد الذي وصلنا من العصر البرونزي، فكان هو وسيلة العلماء لمعرفة ذلك العصر.