Atwasat

طرابلس وخطر عابريها

نورالدين خليفة النمر الأحد 30 سبتمبر 2018, 10:50 صباحا
نورالدين خليفة النمر

استعارت طرابلس من روما اسمها فسمتها: بنتها الصغيرة، وصيرها حظها أن لا تكون كروما ألبيرتو مورافيا خطرها على المارّة، فيكون الخطر من عابريها ويتنوّع، فينفرد بالحرب، كواحدة من ضمن الضوابط الإنسانية الصادمة، التي رأتها إيجابيةً، النظرية المالتوسية فاقترحتها لتجسير التفاوت بين الزيادتين في الموارد ومقابلتها في عدد السكان، بزيادة معدل الوفيات بما يكفلُ تخفيضاً لعدد السكان لملائمته مع الموارد.

أما الحرب الأهلية ونتائجها العنفية، ومنها التهجير، فيستخدمها الباحثون الاجتماعيون مؤشراً لعناصر سوسيولوجيا إخفاق المدن؛ بل فشلها كما في الحالة الليبية أن تكون عواصم من قواصم. وهو مانعاه قبل 600 عام العلاّمة عبدالرحمن بن خلدون على العرب ـ وضرب مثلاً بالكوفة والفسطاط، والقيروان ـ وهجاهم أنهم لايؤسسون سوسيولوجيا العاصمة السياسية في مدينتهم حسب المفهوم المعاصر المسمى في أدبيات التمدن، بـ Zoning .

ويُعنى به التخطيط بهدف الاستخدام الأمثل للأرض، بتقسيم المدن إلى مناطق كأداة من أدوات خطط التحضّر" Urbanization" .فيعلل ذلك بأن «.. البناء واختطاط المنازل إنما هو من منازع الحضارة التي يدعو إليها الترف والدعة، وذلك متأخر عن البداوة ومنازعها. فالمدن والأمصار ذات هياكل وأجرام عظيمة وبناء كبير وهي موضوعة للعموم لا للخصوص فتحتاج إلى اجتماع الأيدي وكثرة التعاون».

تؤكد الأرقام المنشورة في بوابة الوسط عن مقابلات مع مسؤولة إدارة التواصل لحل الأزمة وتصريحات من مصادر اللجان ذاتها في البلدات المستقبلة. فتحصي عدد النازحين من مناطق النزاع في جنوب العاصمة طرابلس من سيدي سليم حتى عين زارة بمامجموعه 5000 عائلة، الحجم المُقدّر في كل أسرة10أفراد. وحظيت ـ حسب الناطق باسم المجلس البلدي ـ ترهونة، التي انطلقت منها ميليشيا الكاني بمسمى الجيش السابع بادعاء تحرير طرابلس من ميليشيات منافسة بـ 500 عائلة نازحة، والأغرب منها سرت التي تبعد 600 كم، فهي الأخرى استوعبت حسب مصدر بلجنة الأزمة حصّتها بـ 100عائلة نازحة حلّت بسرت وضواحيها التي تُبذل مساعٍ لإعادة إعمارها بعد القصف الذي أصابها في الثورة الشعبية 2011، وأن النازحين جُلّهم اندمجوا في أقاربهم، بينما بحث المقتدرون عن مساكن مُريحة للإيجار!.

يخطيء من يفصل في النظرية الخلدونية مبحث المجتمع الإنساني عن مبحث الدولة التي تحكمه. والتي ما انفك مكتشف قوانين المجتمع من التاريخ أن يكون خادمها وحاجبها ودبلوماسيها ومفكرها اللامع عبر التاريخ . ولكي نتابعه في استبصاراته الكاشفة لأزمة عاصمتنا طرابلس نبدّل كلمة الأُمم في نص ابن خلدون بالدول، إذ يقول فـ «.. اعلم أن المدن قرارٌ تتّخذه الأمم عند حصول الغاية المطلوبة من الترف ودواعيه، فتؤثر الدعة والسكون وتتجه إلى اتخاذ المنازل للقرار، ولما كان ذلك القرار والمأوى وجب أن يراعى فيه دفع المضار بالحماية من طوارقها وجلب المنافع وتسهيل المرافق إليها».

وإزاء المخالفة لهذه الشروط تبدي طرابلس كما سعت دائما في رواية حرب الميليشات ضد الميليشات غريمتها على المال والنفوذ. بل تحاجج بكفآءاتها المتُشكّكين فيها أن تكون عاصمة ليبيا المستقلة منذ عام 1951 عن الاستعمار وانتدابات هزيمته في الحرب العالمية الثانية.. وقد عرفت المدينة باسم "أويا" واحدة من"أويات الإله الفنيقي بيلات ملقار"، وتسمّت رومانيا بـ«Tripolis» المدن الثلاث، وتكونت من ثلاثة تشكلات مجتمعية تمظهرت هوّيتها البونيقية: في السياسيات: لبدة ـ ماجنا التي أنجبت ماركوس أوروليوس وهيأته عدا تبوئه وظيفة الإمبراطور بترشيحه «المواطن الأول» من مترشحين متساويين في الدولة الرومانية،خصوه بلقب الفيلسوف لتأملاته الرواقية, في الحياة والأخلاق وتهذيب النفس وفضائل الحكمة والعدالة, وأيضا فكره وأسلوبه في الحكم والإدارة، و ـ صبراته التي أشهرها بكتابه «المُرافعة» لوكيوس آبوليوس الفيلسوف: يدفع به عن نفسه تهمة السحر الأسود الذي بياضه الحب أسكنه ثقافياً في أويا طرابلس اليوم.. قانونياً وخطيبا مفوّها باللاتينية.

ولكونها قبل الاستعمار الإيطالي إيالة عثمانية يتشابه إسمها مع مدينة في جبل لبنان تابعة لهم. لاترقى تاريخياً وثقافياً لأهمية طرابلس الليبية، استحدث حاكموها العرب وبعدهم التُرك حرف الألف لتمييزها. وهو الحرف الذي خاطبها به الصوفي الولي عبدالسلام الأسمر مناديها «إ.. طرابلس، ياحُفرة الدم!» متأسياً على مصيرها العنفي ـ الميليشاوي الذي تشهده اليوم. فتستبيحها الميليشيات مُحيلتها حُفرة دمْ العنف النابع ليس من قلبها كجُل البلدان الليبية الأخرى التي تقمصت وصف المُدن مثلها. بل من أطرافها فتوقعت إشارته من بلدة زوارة ففجأتها من براح عكارّة، فعكرّت مزاج تحضرّها ومدنيتها المتسامحة إزاء الآخر وإن كان يعاديها فيقتلها.

يتجلى العداء اليوم مكر التاريخ الليبي، طارق غيرُ مفسرة أسبابه. واحدة من طوارقه توصيف العاصمة التي تناوبت علىه طرابلس المدينة مع منافساتها بعد استقلال عام 1951. والذي يؤبدها في التباس الغيرة بل الحسد، والأسوأ سوء الفهم الأنطولوجي الذي خصه الكاتب الفرنسي البيركامو بدراما بالعنوان ذاته حيث تقتل العائلة نفسها. ونختصر الطوارق في أفذحها، ـ النظام الاتحادي الفيدرالي الذي أقترح كإجراء مؤقت تحايلت عليه القبائليات وإكراهاتها فناوب العاصمة بين طرابلس وبنغازي، ولحادث جنائي طال الملك في ناظر حاشيته عام 1954، دخلت البلدة البدوية البيضاء مناوباً ثالثاً كعاصمة للدولة ليبدأ العمل عام 1963 بالنظام الوحدوي، الذي جاء ملبيا لمتطلبات الدولة البترولية المنخرطة في برنامج فعّال في التنمية نقل ليبيا 1960 ـ 1967 إلى المرتبة 1 في معدل النمو الاقتصاي للدول النامية. ليأتي انقلاب العسكر عام 1969 فيمركز مهامه الثورية التي تجاوزت وطنية العاصمة إلى توهميّات الوحدوية العروبية من جديد في طرابلس، حيث صارت مقرّ قيادات الدولة، والأمانات «الوزارات» المختلفة، ومقر كل السفارات.

ثم تبدّل المزاج الأوتوقراطي للسلطة الدكتاتورية تجاه طرابلس بعد القصف الأميركي 1986 لخمس دقائق الذي استهدف العاصمة الموازية لطرابلس ثكنة باب العزيزية مقرّ الدكتاتور الحاكم ومبنى الأمن الخارجي الضالع وراء عمليات إرهاب الجماهيرية الليبية في أوروبا وبقاع أخرى من العالم. رد الفعل حسب مزاج رأس الحكم الدكتاتوري إزاء عدم تجاوب أهالي طرابلس بالمسيرات المؤيدة والرافضة لما اعتبر غزواً أميركيا، كان وراء المحاولات لجعل سرت عاصمةً للبلاد.عاصرت شخصياً وقد أصابني الارتجال الثوري الفوضوي في وظيفتي بدايتها عبر تمركز اجتماعات الأمانات (الوزارات) فيها، وبعد الفشل الذي أصاب المحاولة، اقترحت هون لتناوب سرت وتوازيها أيضاً في ترحال الأمانات إلا أن الأمر لم يتم لكليهما، وكان الحلّ عام 2000 إلغاء الحكومة "اللجنة الشعبية العامة" الذي عاصرته مصيبني هذه المرة في تمديد منحتى الدراسية في ألمانيا. وكما خرجت العاصمة المُزيفة فجأة من طرابلس بعد ليلة الغارة الأميركية عادت إليها خلسة وبالتدريج فتغيرت البوصلة مرة أخرى، واستقرت مهام العاصمة التي صارت وهماً شبحياً في المخيلة الأتوقراطية لحاكم الجماهيرية الأممي والأفريقي بشكل غير رسمي في طرابلس .

الأمبراطور الليبي ـ الروماني ماركوس أوريليوس، الذي خلّده قوس تذكاره في مدينة طرابلس القديمة.. في الوقت الذي يعرض إيمانه بالفكر الفلسفي الرواقي بجدوى الحياة الخلوقة السوية المفضية إلى سكينة النفس البشرية وإطمأنانها، فإنه يشدد على الفضائل الحقوقية العادلة والحكمة والاعتدال بين اللين والصلابة في المواقف. وهو التصرّف الذي ينبغي أن تنتهجه السلطة البلدية في حدود طرابلس عام 1970 إزاء نتائج هذا العنف الميليشاوي الذي اشتغل في جغرافيا العاصمة الوهمية بل الكابوسية الموازية فأظهر الخلل الحاصل والمتوّغل بسكين العنف الرمزي والمادي منذ انقلاب العسكر سبتمبر 1969 حتى انقلاب الميليشيات على بعضها سبتمبر 2018 في طرابلس بين الحقيقية والوهم ليزيدها شؤماً على شؤم.