Atwasat

4/ 4- الكابتن مختار اعبيده

محمد المهدي الفرجاني الثلاثاء 18 سبتمبر 2018, 01:47 مساء
محمد المهدي الفرجاني

تعرفت على المعني عندما كان مساعد طيار على خطوط المملكة الليبية. حينها كان طيارو الشركة فرنسيين، وكانت طائرات الشركة حينها من نوع (كارافيل). ثم اتجهت الشركة نحو البوينج الأمريكية وظل مختار أحد مساعدين إلى أن ترقى إلى قبطان، ثم بعد ذلك إلى كبير الطيارين. إلى أن ترك الوظيفة

ويبدو أن مختار ارتبط عاطفيا بسيدة يونانية، وتطور الأمر بينهما وانتهى بالزواج. انتقل على اثرها إلى أثينا لتكون وطنه الثاني واستقر مع زوجته التي امتهنت تجارة الملابس النسائية وافتتحت لها مقرا بمنطقة (كيفاذا). كنت أعرف المحل وصاحبته، من بعد أن تزوجت السيدة (ناتاشا) من مختار وأثمر زواجهما ابنين هما آدم وحواء

في هذه الفترة كنت رئيسا لقسم الشركات الأجنبية التابع مباشرة إلى رئيس جهاز الأمن الخارجي، قبل أن تُلحق تبعيته بإدارة مكافحة التجسس، ولكنني تركتها لعدم قناعتي بإلحاق القسم بإدارة مكافحة التجسس. رجعت إلى بنغازي بدون أن أكلف بأي عمل إلاّ بعض المهمات الخاصة جدا لرئيس الجهاز خارج ليبيا وذات الطابع السري للغاية!.
عندما كنت رئيسا لقسم الشركات الأجنبية كان مكتبي في الدور الثالث في مبني الجهاز الرئيسي، وكان المبنى مصمما على ثلاثة أجنحة كشكل علامة (المرشيدس). كان الدور الثالث يضم إدارة العمليات ومكافحة الإرهاب، كما يضم قسم الشركات الأجنبية، وكان حينها علي دعبور مديرا لمكتب عبد السلام الزادمة، من بعد نقله من مكتب رئيس الجهاز وتكليف المقدم سالم معافه ليكون مديرا لمكتب رئيس الجهاز!.
ذات مساء جاءني النقيب علي دعبور في مكتبي وأخبرني أن عبد السلام الزادمة أطلق فريقا من رجال الإدارة لاغتيال مختار اعبيده في أثينا، وإنهم بالفعل غادروا إلى أثينا منذ عدة ساعات، وقال لي: "إذا كان مختار يهمك اسعَ لإنقاذه..".
وكان المتبع أن يرصد الفريق حركة الهدف - مختار- لاختيار أنسب وقت ومكان للتنفيذ. كانت ما تزال أمامي فرصة لإنقاذه. أسرعت لمقابلة رئيس الجهاز وشرحت له مغبة المغامرة المقبل عليها عبد السلام الزادمة، وتعهدت أمامه مؤكدا لرئيس الجهاز بأن مختار اعبيده لم يكن في يوم من الأيام من المعارضين، إنه يريد فقط أن يعيش مع أسرته في هدوء وبالمقدور إحضاره إلى ليبيا لينفي عن نفسه هذا الاتهام. فطلب مني أن أجلس مع مدير إدارة العمليات لكي يوقف العملية ويسحب فريقه من أثينا، وكلفني من وقتها بتولي ملف مختار اعبيده بعيدا عن إدارة العمليات.
جلست مع عبد السلام الزادمة، الذي كان لا يريد تدخلي في الموضوع، ووصف مختار بأوصاف منها أنه خائن ويتعاون مع المعارضة في مصر، وأنه يقوم بترويج أشرطة تسجيل يستلمها من المعارضة وبمعرفته يدخلها إلى ليبيا، وهو أمر لا يسمح به، وعنصر يقوم بهذه الأعمال التي أتعبتنا كثيرا ويتعين ازاحته من الساحة اليونانية وغيرها وإلى الأبد!.
حدثت مشادة بيننا وارتفعت أصواتنا، ورفض أن يسحب فريقه من أثينا، وأكد على صحة معلوماته. نهضت من أمامه مؤكدا له أن مختار سيكون ضيفا على الجهاز وسينفي بنفسه هذه التهمة أمامك، وأكدت له أنني قادر على ذلك. قبل مغادرتي أخبرني أنه سيحاول الاتصال بفريقه من اليونان، ولكنني كنت على قناعة كاملة بأنه كاذب؛ فهو لا يملك وسيلة ليتصل بهم في اليونان.
طلبت تذاكر سفر على أقرب رحلة، استلمت عهدتي المالية. وطرت، فلقد كنت على سباق مع الزمن؛ أنا من ناحية وفريق الاغتيال من الزاوية الأخرى، وحياة مختار هي الهدف، ولم يكن بين عيني سوى إنقاذه الذي سيضيع نتيجة وشايات كاذبة صدقها عبد السلام الزادمة فسعى لاغتياله.
وصلت أثينا مساءا، واخترت فندقا صغيرا في ( كليفادا) غير معروف لليبيين، غير بعيد من محل (ناتاشا). ذهبت مسرعا إلى المحل لأنني أعرف أن مختار يساعد زوجته في إدارته. وجدت مختار في المحل مثلما توقعت!. هدف سهل وصيد ثمين أمام فوهات مسدسات لا ترحم. تفاجأ الاثنان بدخولي. طلبت من ناتاشا أن تعود إلى بيتها بمفردها لأنني أحتاج للتحدث مع مختار. وذهبنا معا إلى فندق ( أستير) في منطقة ( فاركزا) وجلسنا في ركن هادئ، وأخبرته بخطورة وضعه، فرصاصات الاغتيال تترصده وستصل إليه فهي في أثينا منذ يومين.
بدأ الخوف الشديد على مختار، وأخذ يقسم بأغلظ الأيمان أنه برئ، وأنه لا علاقة له بالمعارضة، ولا نشاطهم، لا من قريب ولا من بعيد. تركته يفرغ شحنته، ثم أنهيت الحوار، مؤكدا له أنه لا يعنيني ذلك كله، فأنا لست معنيا بتصديقه من عدمه، وإن كل ما أريده هو أن أنقذ حياته، ولذلك يتعين أن يختفي لعدة أيام، ولا يظهر في أي مكان في أثينا.. يترك المحل ويسجن نفسه داخل بيته، ولا يغادره لأي سبب، بل ولا يقترب من شبابيكه، وعلى زوجته أن تعرف ذلك وتساعده، ولما كنت أعلم أن زوجته من جزيرة (كريت) وأهلها هناك اقترحت عليه أن يختفي في أي جزيرة في اليونان، ولا يتصل بأحد بمن في ذلك ناتاشا!.
لم يغادر مختار إلى أية جزيرة. فضل أن يبقى بالقرب من أسرته، وكنت أتابع أخباره من خلال زوجته وأبقى معها يوميا أطول مدة ممكنة. ولأنني لا أعرف أحدا من فريق الاغتيال، رأيت أن المراقبة المستمرة قد تكشف لي أحدا منهم.
اختفى مختار تماما، وحان موعد عودتي إلى طرابلس. واتصلت بمختار وبطريقة ما دخلت بيته في غياب زوجته، وجلست معه وتناولنا وجبة "رؤوس خرفان"، وأفهمته بأنني سأغادر إلى ليبيا، وسأتصل به من هناك وأنسق له طريقة الرجوع إلى ليبيا عن طريق بنغازي.
وفي اليوم المحدد حضرت إلى صالة وصول الركاب، من بعد أن طلبت من مكتب الجهاز بالمطار أن يصعدوا إلى الطائرة بعد وصولها، ويرافقوا مختار إلى صالة وصول الركاب من دون أن يشعر بهم. أردت من ذلك أن يحس أنه في أمان ويتحرك بحرية من دون أحد يحميه أو يراقبه. عندما خرج مختار برفقة أعضاء المكتب من صالة الوصول وجدني في انتظاره وكان معي شقيقه المهندس كمال اعبيده.
بعد انتهاء السلام ومراسم الاستقبال تقدم إلى مختار متسائلا: "وماذا بعد الخروج إلى مدينة بنغازي؟" أجبته: "لا شيء على الإطلاق. أنت حر الحركة.. اذهب إلى أي مكان في مدينة بنغازي. زر أهلك وأقاربك وأصدقاءك، وعش حياتك المدة التي ترغبها وعندما تريد الرجوع إلى أثينا اتصل بي لنسافر معا إلى طرابلس لأنهي لك ملفك الأمني، وزودته بهواتف المكتب في بنغازي وطرابلس والبيت، وأكدت عليه بعدم الاتصال بي إلاّ للضرورة القصوى. عندها غادرني مختار وشقيقه إلى بنغازي وسط ذهول مختار من سهولة إجراءات وصوله، وأنني أوفيت بوعدي وهو عدم تعرض أي إنسان له لا بسوء ولا بالسؤال.
انتهت زيارة مختار لأهله وطلبني لكي ألقاه، وحضر إلى منزلي، وجلسنا على فنجان قهوة عربية، وأخبرني أنه مستعد للسفر إلى طرابلس، وفي اليوم التالي غادرنا معا، وبعد وصولنا ذهبنا إلى القرية السياحية في جنزور وسلمته مفتاح (شاليه) كان لشقيقي، وتركت له حرية الحركة، ولكي أشعره بذلك لم أقم معه.
في اليوم التالي قابلت عبد السلام الزادمه في مكتبه وكان غير متأكد من وصول مختار إلى البلاد لأنني لم اتحدث معه، بل تحدثت مباشرة مع رئيس الجهاز، الذي لم يخبره بالأمر، عندها عرفت أن هناك مشاكل بينهما.
أخبرت عبد السلام بوصول مختار إلى طرابلس منذ اليوم السابق، وأنني ارغب أن ينتهي ملفه الأمني ويغلقه، ولا أريده أن يحتاجني لا في أثينا ولا في ليبيا.
وبالفعل قام عبد السلام بتكليف أحد الضباط لمقابلة مختار في جنزور، وأن يرحب به كما يجب، وإن كانت إقامته غير مريحة في (الشاليه) هناك حجز باسمه في فندق باب البحر، بإقامة كاملة. قدمت مختار للضابط الذي كلفه عبد السلام وتركتهما معا، ولم أحضر النقاش أو الحوار بينهما، وانتهى اللقاء في أقل من ساعة. سألت مختار إن كانت الأمور كما أخبرته بها فأجابني إن الأمر أبسط كثيرا مما كان يتصور، وانتقلت به إلى فندق باب البحر، وكان عبد السلام قد سلمني مبلغ قدره 5 آلاف دولار لأعطيها لمختار، إلاّ أنه اعتذر عن أخذ المبلغ، ولكنه قبل تذكرة السفرـ وغادر طرابلس إلى أثينا بعد عدة أيام!.
استقلت من الجهاز، وسافرت إلى أثينا، وتشاركت مع مختار في عمل تجاري، وكانت البداية تجارة أعلاف، وبالفعل قمنا بعمل جيد معا، إلاّ أننا اختلفنا بعد فترة، وترك كل منا الآخر، وتقلص تواصلنا واقتصر على فترات متباعدة، غالبا ما تخضع للصدفة.
طوال فترة عملي، عملت ما كان يمليه عليَّ ضميري، وواجبي الوطني. وأنا راض تماما عما قمت به من عمل تجاه الوطن وأبناء وطني، لم أكن أبدا جزءا من النظام السياسي في بلدي لا سابقا ولا لاحقا! وأن الأمن، والأمن فقط، هو ما كان يعنيني؛ أما شكل النظام السياسي فهو، كما أرى، من اختصاص الشعب دون سواه. كنت وما زلت مقتنعا تماما ومهما يكن شكل النظام السياسي يجب إبعاده تماما عن جهاز المخابرات، الذي يتعين أن يكون واجبه الحماية بالرصد فقط، أما الحلول فتكون وفق القوانين. أنا مقتنع تماما لدرجة العقيدة، أن الصراع السياسي بين النظام ومعارضيه يجب أن يبتعد تماما عن الاجهزة الأمنية، وإلاّ ستتغول هذه الاجهزة على الجميع الذين يجدون أنفسهم أسرى لديه يرون بأعينه ويسمعون بأذانه.