Atwasat

لَيْبَرةٌ أفريقية للفوضى الليبية

نورالدين خليفة النمر الإثنين 17 سبتمبر 2018, 10:38 صباحا
نورالدين خليفة النمر

مسار الأحداث الأخيرة، إرهابياً: الهجوم الاعتباطي الذي استهدف مقر المؤسسة الوطنية للنفط، وميدانياً: حرب الميليشيات على الميليشات. وروتينياً: ممانعات البرلمان العاطل عن العمل في طبرق منذ 2016 وتقصّده للفشل الدائم في تأمين جلسة مكتملة النصاب للتصويت على قانون الاستفتاء على مشروع الدستور. كل هذا يؤكد أن الثورة شبه الشعبية في ليبيا التي انتصرت بتغيير نظام الحكم الدكتاتوري ـ الأوتوقراطي عام 2011 ، سارت في انحرافين قاتلين ـ وهو ماكتبنا فيه جُل مقالاتنا بالوسط المؤطرة في عنوان سوسيولوجيا الإخفاق الثوري ـ . أولاهما أنها لم تتقدّم خطوة صحيحة في مسار الحكم الديمقراطي المأمول من الذين انتفضوا عفوياً يوم 17 فبراير 2011 ، والذي تعزّزه وثيقة دستورية متوافق عليها وتفعيلها بتسيير عملية انتخابات شفافة لتحريك دواليب الدولة بتناوب سلطة حكومة / معارضة وبالعكس. وفي هذا الصدّد نذكرّ الليبيين، والمراقبين لحدث التغيير الليبي 2011 الذين تناسوا الحدث الذي أرهص له قاريّاً، وهو النزاع الرئاسي في دولة ساحل العاج الأفريقية، الذي حسمه تنسيق تاريخي غير مسبوق في قارة أفريقيا بين الولايات المتحدة الأميركية والدولة الاستعمارية السابقة فرنسا بتمكين الرئيس المنتخب الحسن وتارا من مسك زمام الأمور في البلاد بأن دعما لوجيستياً القوات الموالية له في للتقدم إلى العاصمة التجارية أبيدجان بعدما شنت هجوما خاطفا من الشمال للإطاحة بالرئيس المتمسك بالسلطة لوران غباغبو. درس ساحل العاج يذكرنا بأن المساعي المتعددة الإجبارية، سواء كانت عسكرية أم اقتصادية, التي يضغط بها المجتمع الدولي للتغيير الديمقراطي، أو تصحيحه كثيرا ما تبدو غير ناجعة أو مخترقة إلى حين تأزف لحظتها الفعالة التي تعمل بها، كما حدث في دولة ساحل العاج, حيث دأب الرئيس واتارا الممكّن فرنسياً أو بالأحرى دولياً من مقاليد السلطة، على إحداث جملة من الإصلاحات الاقتصادية والسياسية استعادت على إثرها البلاد عافيتها الاقتصادية. وانتهي اليوم بشعبه إلى إبرام وثيقة دستورية رغم كل الانتقادات عليها من المعارضة. إلا أن البرلمان سيصادق عليها في 11 أكتوبر 2018 بإجماع محتمل .

النقطة المثيرة للجدل التي عالجها الدستور الجديد هي إشكالية الهوّية المواطنية للسياسي ممثلاً في الرئيس المنتخب، والتي أدخلت "كوت ديفوار" في أتون حرب أهلية طاحنة عام 2010، عندما واجه الرئيس الحالي الحسن واتارا صعوبة كبيرة في الترشح للانتخابات الرئاسية بسبب شكوك في أصوله الإيفوارية وانحدار أبويه من بوركينافاسو المجاورة، وأدى ذلك إلى انقسام البلاد إلى شمال متمرد مؤيد لواتارا، وجنوب مؤيد للرئيس السابق لوران غباغبو. ولذا، تم في الدستور الجديد حذف المادة التي تنص على شرط أن يكون المرشح لمنصب رئيس الجمهورية من أبوين مولودين بساحل العاج؛ وتقول السلطات في هذا السياق إن الدستور الجديد يحل مشكلة "الانتماء إلى كوت ديفوار"، خاصة أن نسبة كبيرة من سكانها ينحدرون من بلدان مجاورة، هاجروا إليها قبل الحرب الأهلية وفي عهد الطفرة الاقتصادية إبان حكم الرئيس الأسبق هوفييت بونييه.

تتشارك ليبيا مع ساحل العاج ليس في تواقت التغيير السياسي عام 2011 فقط الذي كان علامة أمل للثوار الليبيين لإمكانهم إسقاط الدكتاتور فسقط؛ بل في الأزمة السياسية التي تُنتجها الانقسامية التي تتوغل جذورها المسمومة في الضمير المجتمعي، فتُحرف التغيير الثوري المأمول إلى مآلات الدولة بل البلاد الفاشلة كما هو حال ليبيا الدراماتيكي منذ 2014 إلى اليوم.
كتب KUMALO LIEZELLE مقالا نشرته مؤسسة Institute for Security Studies يتعلّق بتجربة ليبيريا في تحقيق السلام وكيف يمكن أن يكون نموذجاً أفريقيا مُلهماً لبلدان أخرى في القارة التي ترزح تحت الانقسامية، والتي هي في حاجة إلى وثيقة دستورية تلبي حاجات كل الأطراف النزاعية، ورغائبها التي تتفاعل في واقع اليوم.
توجهت أنظار الذين نظرّوا للعدالة الانتقالية في ليبيا عام 2012 إلى استلهام تجربة "لجنة المصالحة والحقيقة" (تي آر سي). الجنوب أفريقية. وأذكر العروض الرومنطقية الفضفاضة لمذكرات نيلسون مانديلا في هذا الشأن التي قُدمت في احتفالية تأبينه بفندق الودان بطرابلس شتاء عام 2013 وكان في مقدمتها العرض المرتجل للممثل الأممي في ليبيا وقتها طارق متري. الكل تغافل طرفي المصالحة الممثل الأبيض للأقلّية العنصرية الذي يُضمر ـ مهما تجاوزت عنصريته الحدود ـ القيم الغربية العقلانية والبرغماتية، التي وضعته في دائرة العزل بسبب رؤيته التمييزية لمقابله الأفريقي، الذي ماهى في رمزية المناضل والسياسي نيلسون منديلا كل التجربة الثقافية الأفريقية وأخلاقياتها الواقعية ضد الميز العنصري؛ كما أن لا أحد أشار إلى القانون، الذي كان قائماً إبان مرحلة الانتقال والذي عكس التوازن السياسي والسلطوي الدقيق، والذي زود لجنة المصالحة بصلاحيات واسعة واستثنائية قياساً بـ "لجان الحقيقة" التي جرى تشكيلها للنظر في انتهاكات الماضي في دول أخرى. لكل ذلك ينبغي أن نقتدي بدرس عيني مقاربٍ لنا مثلته التجربة الليبيرية، وعلى خُطاها دستورياً الساحل ـ عاجية ونتعلّم منه أن تحقيق السلم الاجتماعي كعملية منتجة (Process)، ضرورة لاستعادة الاستقرار بعد فترات طويلة من العنف كما هو حال بلدان القارة الأفريقية أو الانسلاخ من جسد دكتاتورية مزمنة كما في الحالة الليبية.
نمذجة المثال الليبيري تكون في أربعة توّجهاب رئيسية: ـ التوّسع في التمثيلية، فلا ينبغي أن تكون عملية بناء السلم المجتمعي "خطيّة linear"، بل يجب أن يكون التمثيل متسعاً لكل فئات المجتمع التي يؤطرها النزاع. فالتمثيل الواسع سيضمن وجود برامج مصالحة مؤثرة وفعالة. الشمولية العادلة بأن تكون بالاستثمار فى الهياكل والمؤسسات التى تضمن عملية الوصول إلى مجتمعات سلمية تتحقق فيها العدالة المتكاملة على جميع المستويات. ـ التصالحية الشاملة المُتدرّجة من الوساطة إلى الإصلاح وبناء هوّية الأمة أو بالأحرى إعادة بنائها. ـ إضمار السياسي في المجتمعي. فحتى يمكن تحقيق سلم مجتمعي مستدام، لا يمكن تجاهل جوانبه السياسية، حيث أن ديناميكيات السلطة داخل البلد سوف تحدد مستوى "الشمولية" فى عمليات تحقيق السلام. والعملية السلمية المنتجة(Process)، هي التي تتفهّم دوافع النخب السياسية فى السياق المحلى، وتتضمن رسم خرائط هياكل السلطة وتحليلها من قبل مجموعة واسعة من أصحاب المصلحة على المستويين المحلي والوطني، حيث أن ذلك سوف يضمن احترام الأفراد للقرارات التى ستضمن استمرار السلم الأهلي الملموس بدفع المضار وتحقيق المنافع. ـ فعلياً يكون الصراع على المستوى المحلى إلا أنه من الضرورى أن تكون عملية التشاور لتحقيق السلام على نطاق واسع وممثلة لتنظيمات أبعد من النطاق المحلي والإقليمي. فمبادرات السلام، يجب أن تستند إلى ما يمكن أن يتحقق بالفعل على أرض الواقع في عملية سياسية مرعية من المجتمع الدولي.
عين في نوفمبر 2015 الألماني مارتن كوبلر، رئيسًا لبعثة المنظمة الأممية للدعم في ليبيا، بعد أن أنهى مهمة الأمم المتحدة لتحقيق الاستقرار في جمهورية الكونغو الديمقراطية سنة 2013. لن نُعدّد المعيّبات الليبية التي طالته، وطالت من قبله ومن بعده. فنبدو أننا نعيب زماننا والعيب فينا.