Atwasat

طرابلس "الأم العزيزة الصغيرة ذات المخالب"

سالم العوكلي الإثنين 17 سبتمبر 2018, 10:35 صباحا
سالم العوكلي

حتى لو كان فيها أعلى سلطة. المجلس الرئاسي الذي حصل على شبه شرعية محلية وشرعية دولية. حتى لو كان فيها مجلس استشاري أعلى للدولة مهمته أن يحيي رميم المؤتمر الوطني سيء الصيت وأن يوفر فرص عمل لمن وجدوا أنفسهم عاطلين عن الصراع الجهوي. حتى ولو كان فيها حكومة وفاق لا تتمتع بأدنى حد للوفاق، ولا تستطيع أن تحكم على المكاتب التي تمارس فيها كسلها اليومي. حتى لو كان فيها المصرف المركزي؛ المؤسسة الوحيدة التي تعلن دون وجل مركزيتها. وفيها الكبير الذي يدير بحنكة لعبة الاعتمادات الذهبية، وهي اللعبة التي تحميه وتجعله مستمرا في منصبه مثل من يدير طاولة قمار في أحد كازينوهات لاس فيغاس الأنيقة المرتبة ذات التقاليد العريقة التي يحج إليها راغبو الكسب السريع من كل فج عميق أو غير عميق.

حتى لو كان فيها ختم الباشا القرمانلي مازال يلمس القرارات بلمسة سحرية فينفتح ألف طريق للفساد المشرعن الناجي من المحاسبة لعدم كفاية الأدلة. وحتى لو كان فيها مكتب النائب العام الذي يسبح وسط بحيرة من الجرائم ولا يستطيع التجديف في أي اتجاه. حتى لو فيها سفارات الدنيا ومخابرات الدنيا، فإن طرابلس ــ عاصمة ليبيا عبر التاريخ، بشكل رسمي أو غير رسمي، في العصر العثماني، وفي زمن الاحتلال الإيطالي، ونصف عاصمة ليبيا أو ثلثها في زمن المملكة، وشبه عاصمة ليبيا في زمن القذافي، وعاصمة ليبيا الأبدية في إعلان فبراير الدستوري، وعاصمتها غير الأبدية في مسودة الدستور المقبوض عليه في قفص البرلمان، فإن طرابلس مدينة وعاصمة مخطوفة بكل معنى الكلمة، وحين تخطف العاصمة تصبح الدولة كتمثال روماني مسروق رأسه، مثل اليمن الذي خطف الحوثيون عاصمته فتمزق، ومثلما خطف النازيون يوما باريس عاصمة فرنسا ووضعوا ونصبوا حكومة فيشي التي لا تهش ولا تنش، ومثلما خُطفت القدس، عاصمة فلسطين، فصارت أرخبيلاً دون ذاكرة، تتصارع فيها حكومات وفصائل وسلطات تشريعية على الشرعية فوق أرض تسحب من تحت أقدامهم يوميا. ومثلما خطفت الدبابات الروسية عاصمة التشيك من عاشقيها ومثقفيها وموسيقييها، براغ، التي سماها ابنها غير البار كافكا "الأم العزيزة الصغيرة ذات المخالب".

حين قبع فيها وكر النسيان أربعة عقود أصبحت طرابلس نسيا منسيا. نسيت نفسها ونسيها العالم منذ أن كان باب العزيزية كهف الجنون الذي لا يقترب منه أحد، ومذ كان الجن الأكبر في الباب يمارس سحره الأخضر من أجل محو ذاكرة المدينة التي تعكر صفو بداوته غير النبيلة.

طرابلس مخطوفة من قبل زعماء القاعدة العائدين من كابول، الذين تقلدوا أعلى مناصبها بمساعدة قوى إقليمية

طرابلس مخطوفة من قبل زعماء القاعدة العائدين من كابول، الذين تقلدوا أعلى مناصبها بمساعدة قوى إقليمية ووكيلتها "كتلة الوفاء لدم الشهداء" من داخل المؤتمر الوطني، والذين رسموا خارطة طريقها وابتعدوا عن المسرح كي يحركوا الدمى من بعيد.
ومخطوفة الآن من جماعات تدعي أنها مبعوثة من الله ومعبدها الوحيد البنك المركزي، من لثام داعش إلى إزار السلفية إلى ربطة العنق الأخوانية، من الذين يعتبرون الحاكم طاغوتا، إلى من يدعون الناس لطاعة الحاكم حتى لو جاء عن طريق سفك الدماء أو عن طريق غزاة هبطوا على الشاطئ الرابع.

طرابلس مخطوفة، وليبيا بدون عاصمة حتى الآن، ولم يعد سوى "كبير" مكلف بحراسة المركزي وإدارة أمواله على طاولة القمار الممتدة بمساحة الوطن، ولم يعد سوى شعب رعية يقف في طوابير أمام المصارف الخالية من السيولة ليصدق الصكوك ويمنحها للتجار بفائدة تصل إلى 50 % في كازينو القمار الشاسع المسمى ليبيا، حيث الثراء السريع والإفلاس السريع والقتل السريع والخطف السريع، ولا شيء بطيء فيها سوى رغيف الخبز والنت.

طرابلس مدينتي الأثيرة، مدينة المثقفين والشعراء والمالوف والمقاهي والجميلات اللائي يقدن السيارات الرباعية بجنون، والخلوات، والأضرحة، والأنغام الصوفية، أمي العزيزة أصبحت لها مخالب وما عدت قادرا على السفر إليها رغم الشوق الجارف، هي مختطفة من خيال الشعر ومن جغرافيا ليبيا، ومن تاريخها، منذ أن بدأ المحو الطقوسي لذاكرتها إبان النظام السابق واستمر مع أيديولوجيا من سيطروا عليها بعد فبراير عبر هذا الجرف المخطط له لكل معالمها، وعبر هذا التلويث الممنهج لروحها التي كانت تتسع لكل الليبيين وكل العابرين والمستقرين.

هل ستتذكرني طرابلس بعد أن أيقظ فيها الغزاة (الفاتحون الجدد تحت رايات سود) خلايا الزهايمر، موقنين بأن خرابهم لن يحل بأي مكان يحتفظ بذاكرته. النسيان وحده هو الوصفة الفاعلة لكل فاشية تسعى لأن تبني مدينتها الخاصة الورعة والمطيعة، لذلك لا نستغرب أن يتحدث بعض سكانها عن الأمن في ظل الميليشيات، ويلتقطون الصور على شواطئها الناعمة (التي تقذف يوميا بجثث المهاجرين) وينشرونها على مواقع التواصل دحضا لكل من يشكك في بهجة عروس البحر التي ذبلت حناؤها في انتظار زفافها مرة أخرى إلى الوجدان الليبي الذي يفتقدها.

يقول كونديرا في "كتاب الضحك والنسيان" على لسان المؤرخ التشيكي، ميلان هوبل، الناجي من الطرد خارج مدينته براغ: "لتصفية الشعوب، يُبدأ بانتزاع ذاكرتها. وتُتلف كتبها وثقافتها وتاريخها. فيكتب لها حينئذٍ آخرُ كتبا أخرى، ويعطيها ثقافة أخرى، ويبتكر لها تاريخا مغايرا. وبعدئذٍ تنسى الشعوب شيئا فشيئا ما هي عليه وما كانته. وينساها بسرعة أكبر العالم الذي يحيط بها".

من يتذكر ما حدث لشعبنا من تصفية مثل هذه؟ ربما لا أحد يذكر، لأن النسيان كان تمرينا قاسيا عشناه لأربعة عقود كبرنامج استراتيجي صرفت عليه المليارات. لكل ذلك لن نستغرب ما يحدث، وما يحدث لطرابلس خصوصا، وكيف يجعلها العالم المحيط الذي نسيها لقمة في يد عصابات لها مصرف مركزي، وذراع سياسي يعترف به العالم أجمع.