Atwasat

الخمارةُ والسِتارة

محمد عقيلة العمامي الإثنين 17 سبتمبر 2018, 10:35 صباحا
محمد عقيلة العمامي

هاتان حكايتان طريفتان أوردتهما كنيسة قد تكون كاثوليكية أو بروتستانتية فلا فرق، فهما محرابا دين سماوي وكفى. لقد حدثتا في الغرب. هناك بعيدا عن بلادنا، ولا علاقة لهما بنا على الإطلاق. وأرجو ألاّ يفسرا بغير طرافتهما، أو إن كانت ثمة موعظة أو عبرة منهما.

الحكاية الأولى تقول أن رجل أعمال اشترى قطعة أرض بجوار كنيسة القرية ليبني فوقها خمارة!. هاج رجال الدين، ومن ورائهم الغوغاء، وعملوا بالسبل كلها على إيقاف المشروع، ولكن صاحب المشروع لم يعرهم انتباها واستمر في مشروعه، ولم يعد أمامهم سوى الدعاء عليه أثناء صلواتهم فليس في القانون ما يمنع بناء خمارة بجانب معبد ما. وتكرر الدعاء ولم يعد أثناء صلوات أيام الأحد فقط، ولكن كلما اجتمعوا تعلوا أصواتهم بالدعاء على خمارته وأصله وفصله.
أثناء زوبعة شتوية كانت قُبيل أعياد الميلاد، حيث لا تخلو الكنسية من رجال الدين يستمعون طوال النهار وجزء من الليل إلى اعترافات الجانحين الذين يملؤونها بالشموع والنذور والهدايا، والدعاء أيضا على صاحب مشروع الحانة.
أثناء تلك الأيام المباركة وقبيل انتهاء بناء الخمارة بقليل، ضربتها زوبعة بصعقة سماوية وأصبحت كومة من الرماد، وخرج رواد الكنيسة الصالحون يرقصون، فارحين، يشكرون الرب على نجدتهم.
صباح اليوم التالي رفع صاحب مشروع الخمارة شكوى للمحكمة مطالبا بتعويض كبير من الكنيسة التي ثابرت بالدعاء على مشروعه بالفناء.
واستمرت المداولات شهورا، إذ كانت حجة الكنسية أنه من غير المنطق أن تضرب الصاعقة الحانة بسبب دعواتنا، مؤكدين أن ذلك ليس منطقيا، بل ولا يعقل أبدا؛ غير أن صاحب الحانة أصر أن ما حدث كان بسبب ابتهالاتهم ودعواتهم علية وعلى حانته. استمر الحال على هذا المنوال حتى أعلن القاضي رأيه قائلا: "الحقيقية أنها مُعضلة حقيقية، وأنا حائر جدا: المؤمنون بقدرة الرب يرفضون فكرة ان الله يستجيب للدعوات.. وصاحب الحانة الذي لا يؤمن بالكنيسة واثق من استجابة الله للدعوات!" ولملم اوراقه وتنحى عن القضية.
أما الحكاية الثانية فلقد رواها قسيس لكنيسة متواضعة بقرية صغيرة يعرف أنها كانت ملاذا للكثير من الجانحين والمحتاجين لرعاية الرب. كان وزوجته يعتنيان بالكنسية لعقيدتهما الدينية الصادقة بأهميتها للناس، وكانا يعملان تلك الأيام، التي تصادفت قبيل أعياد الميلاد، بهمة وسعادة. ولما كانت عواصف ديسمبر جامحة، زمجرت تلك الليلة، وسكبت أمطارها الغزيرة على القرية حتى أن جدران الكنيسة تداعت وتسببت في سقوط جزء كبير من الحائط خلف المذبح تماما.
ولقد حزنا كثيرا لأنه لم يعد يفصلهم سوى أيام عن الأعياد، وليس بمقدورهما إصلاح الأضرار. ذهب القسيس إلى سوق القرية لغرض ما، فوجد ستارة من زمن ماض مطرزة بألوان متناسقة وجميلة، وانتبه إلى أنها اكبر قليلا من مساحة الضرر بجدار المحراب، كان سعرها بسيطا فابتاعها في الحال. وعاد بها إلى الكنسية وثبتها فغطت الضرر وخلقت شكلا جميلا زاد من رونق المحراب. كان القسيس وزوجته سعيدين جدا وهما يتأملان السجادة المعلقة.
بعد يوم أو اثنين كان الطقس باردا للغاية، وشاهد القسيس سيدة ترتعد من البرد بمحطة الحافلة القريبة من الكنيسة، فأخبرها أن الحافلة لن تصل قبل ساعة واقترح عليها أن تنتظر داخل الكنيسة، جلست السيدة زمنا حتى غمرها الدفء ثم شرعت في صلاتها، وما إن انتهت منها حتى قامت نحو السجادة وتأملتها طويلا ثم رفعت طرفها، والتفتت نحو القسيس وقالت:
"إنها سجادتي! لقد اشتراها زوجي لي من بروكسل.. وها هي أحرف اسمى الأولى مطرزة بالحافة، كنت أفرشها على مائدة الضيوف عندما كنا نعيش في فيينا" واستطردت: "عندما بدأ النازيون مضايقتنا اقترح زوجي أن نغادر منفردين ويلحق بي في سويسرا. ولكنهم أخبروني أنه مات في معسكرات الاعتقال".
حاول القسيس أن يقنعها أن تأخذها ولكنها رفضت مؤكدة أنها في مكانها الطبيعي، ثم أخذها إلى محطة الحافلة، وعلم منها أنها جاءت بناء على دعوة لمقابلة عائلة لتتولى تربية أطفالهم ولكنها لم تتوافق معهم. وغادرت إلى قريتها.
بعد قداس عيد الميلاد، اتجه رجل مهيب من القرية نحو السجادة، وفحص السجادة، وقال للقسيس إنها سجادتي، اشتريتها من بروكسل وحملتها إلى زوجتي – رحمها الله - في فينا.. "قاطعه القسيس: "زوجتك لم تمت!" وحدثه عما حدث. وذهبا معا إلى بيت العائلة الذي ذكرته للقسيس، وأخذا منهم العنوان.. وذهب معا إليها".
الحكايتان تبدوان وكأنهما نسج خيال، ولكن جانبهما الديني يجعلنا نتقبلهما؛ أولا: لأنهما حادثتان قابلتان للتصديق، فهما ليستا معجزتين، فإن كنا نؤمن بالمعجزات الدينية لِمَ لا نقبل أحداث المنطق وحسن التفكير.. فهو – جل شأنه – يضع قوته في خلفائه في الأرض، فمن بمقدوره أن يقول أن القاضي ليس صاحب منطق وتفكير وجيه. ومن بمقدوره أن يرفض الحب، فالله محبة وهو من قرر أن يجمع الزوجين في محرابه، من بعد أن سخر لذلك عاصفة عيد ميلاد مبارك.
في مطلع خمسينيات القرن الماضي وجه الاتحاد السوفيتي بولندا لبناء مدينة نموذجية أسموها (نوفا هوتا) وتعني مسبك المعادن الجديد، وأقاموا لها كافة وسائل إقامة وراحة العمال باستثناء كنيسة، لأنها تتنافى والفكر الشيوعي.
ولكن سكان الريف البولندي يُعدون من أكثر الكاثوليك تعصبا، فخلقوا كل المشاكل ليوافق الكرملين على بناء الكنسية، ولكن السوفيت خدعوهم؛ إذ نصبوا صليبا بطول ثمانية أمتار معلنين به أنه موقعها، ولكنه ظل كما هو من دون نية حقيقية في البناء، وإن ظل السكان يصلون أمامه في العراء. ولكن المدينة لم تيأس حتى أقاموها، من بعد صبر استمر أكثر من ربع القرن.
في 15 مايو 1977 أعلن رئيس اساقفة (كراكوف) الذي اصبح يوم 16اكتوبر 1987 البابا يوحنا بولس الثاني افتتاح الكنيسة وقال: "أن قيود الدنيا كلها تعجز أمام عظمة الأيمان، وأن الإنسان أكبر بكثير من القيود الاقتصادية..".
يقول التاريخ أن نضال كاثوليك (نوفا هوتا) من أجل بناء الكنيسة استمر طويلا بالسبل كافة ولكنهم لم يذبحوا حتى ديكا بائسا واحدا، من أجل تحقيق مطلبهم، ولم يفجروا مركز شرطة واحدا!.