Atwasat

العدمية والانفتاحية

عمر أبو القاسم الككلي الأحد 16 سبتمبر 2018, 08:59 مساء
عمر أبو القاسم الككلي

يختلف الناس في مواقفهم النفسية والعقلية إزاء الإنسانية عموما. فثمة من يتمركز حول ذاته ولا يحفل بما يقع بعد انقضاء حياته. وهناك من تنفتح ذاته على "الذات" الإنسانية العامة، ويتمنى أن تسير الحياة نحو الأفضل بعد اختفائه من عالم الأحياء. ويوجد نوع ثالث (وهو الأكثر عددا، في اعتقادي، لا يخطر على باله هذا الأمر).

أفضل ما يمثل النوع الأول، وفي صيغة متطرفة، صيحة مدام دي بومبادور، عشيقة لويس الخامس عشر «أنا ومن بعدي الطوفان» التي قالتها وكانت تقصد منها رفع معنويات الملك بعد هزيمة معركة روسباخ. فما دام الملك باقيا على قيد الحياة فلا تهم فداحة الخسائر البشرية في تلك المعركة.

كما يمثل هذا الموقف أيضا عجز بيت للشاعر الفارس أبي فراس الحمداني الوارد في قصيدته الشهيرة التي مطلعها «أراك عصيَّ الدمع» ونصه: «إذا متُّ ظمآنا فلا نزل القطر».

وبغض النظر عما إذا كان قول عشيقة لويس الخامس عشر وأبي فراس يمثل موقفا راسخا في وجدان القائل، أم أنه صدر تحت ضغط لحظة انفعالية استثنائية عابرة، فإنه يمثل موقفا متمركزا حول الذات يصدق، إلى هذه الدرجة أو تلك، على عدد كبير من الناس، وهو، بالطبع، موقف عدمي بامتياز.

ويمثل الموقف الثاني، خير تمثيل، بيتان لأبي العلاء المعري، جاءا في قصيدته التي مطلعها «أرى العنقاء تكبر أن تصادا     فعاند من تطيق له عنادا» يعلن فيهما:
«ولو أنّي حُبِيـتُ الخُلْـدَ فَـرْداً      لمَا أحبَبْتُ بالخُلْدِ انفِرادا
فلا هَطَلَتْ عَلَيّ ولا بأرْضي       سَحائبُ ليسَ تنْتَظِمُ البِلادا»

تتجلى في هاتين البيتين قيمة التفتح الإنساني النقي والعميق، حيث الإيمان بوحدة البشرية والإخاء الإنساني.

واللافت للنظر المفارقة التي تكتنف محتوى هذين البيتين، فقد وردا في قصيدة يتذمر فيها أبو العلاء من معاندة الحياة والناس له، إلى درجة جعلته يقول في بيت من القصيدة ذاتها:
«فَظُنَّ بسائر الإخوان شراً    ولا تأمن على سر فؤادا»
ورغم ذلك لم ينقم على الإنسانية ويتمركز حول ذاته.
*

موقف التمركز حول الذات الذي لسان حاله «أنا ومن بعدي الطوفان» و«إذا مت ظمآنا فلا نزل القطر» يجد تطبيقه الفعلي لدى الحكام المستبدين. فالحاكم المستبد يعمل دائما على تمتين وتعميق أوتاد حكمه وسلطته عبر وسائل وآليات مختلفة، تجعل بلاده تغرق في الفوضى والاحتراب الداخلي بعد رحيله القسري أو المفاجيء. ويتيسر له ذلك في المجتمعات المتخلفة المنخورة بالانقسامية الطائفية أو الإثنية أو الجهوية أو القبلية. فيعمل على تعميق الخلافات والانقسامات القبلية بالذات.

شهدنا، وما نزال نشهد، ذلك في الصومال عقب سقوط نظام الرئيس زياد بري سنة 1990، الذي حارب القبلية دعائيا وإعلاميا وقواها واقعيا. ونشهده ونعاني ويلاته في ليبيا بعد سقوط نظام معمر القذافي 2011، الذي عمل بنفس المنهج والذي يبدو أن ما حدث في الصومال أعطاه مثلا حيا على كفاءة هذا التدبير الانتقامي، وشجعه على المضي فيه بشكل جدي وعزم صارم.