Atwasat

أجنحة العقل الإنساني

محمد عقيلة العمامي الإثنين 10 سبتمبر 2018, 01:33 مساء
محمد عقيلة العمامي

يرجح الفرنسيون أن كتابات (فولتير) ظلت كجمر تحت الرماد، حتى أشعلت الثورة الفرنسية، فما انفكوا يرددون مقولته الشهيرة "استيقظ أيها الشعب وحطم أغلالك" ظل هذا القول خمسين عاما في عقول الناس حتى قاموا بأعظم ثورات العالم سنة 1789.

وفيما كان فولتير يحتضر كتب سكرتيره آخر مقولاته: "أموت وأنا أعبد الله وأحب أصدقائي ولا أكره أعدائي.. وأبغض الخرافات " وألحقها بمقولة شهيرة أخرى تقول: "يا إلهي الذي لا نعرفه.. يا من تعلن عنك أعمالك. يا إلهي اسمع مني هذه الكلمات الأخيرة: لو أنني اخطأت يوما فقد كان ذلك بحثا عن قانونك.. قد يمضي قلبي في شرود ولكنه مملوء بك أنت".

رفضت الكنيسة دفنه بسبب إلّحاده مثلما رأت في كتاباته، ولكن الناس هربوه ودفنوه بعيدا عن المدينة

رفضت الكنيسة دفنه بسبب إلّحاده مثلما رأت في كتاباته، ولكن الناس هربوه ودفنوه بعيدا عن المدينة، ولكن ما إن قامت الثورة الفرنسية حتى اندفع الفرنسيون وعادوا برفاته نحو (البانثيون) حيث يرقد عظماء فرنسا، واصطف ربع مليون مواطن فرنسي يقدمون ولاءهم لهذا العقل الذي قال لهم: "لقد وهب الله للعقل الإنساني أجنحة تتيح له أن يكون حرا".

ويقال أن الحسن ابن هانئ، أو( أبو نواس)، الذي يعد أحد أكبر الماجنين في الدولة العباسية، ترك أبياتا تحت الوسادة التي قضى ليلة وفاته عليها تقول: "إن عظمت ذنوبي كثرة فلقد علمت أن عفوك أعظم ** إن كان لا يرجوك إلاّ محسن فبمن يلوذ ويستجير المجرم ** مالي إليك وسيلة إلاّ الرضا وجميل عفوك ثم أني مسلم.

هذان نموذجان لشخصيتين جدليتين ألحدتا ولكنهما عادا إلى حظيرة الإيمان، غير أن الفرق بينهما شاسع وإن اتفقا إلى حد كبير في مجونهما ولكن اختلفا فيما قدما لوطنيهما.

منذ أن قرر (فولتير) أن يكون أديبا اتخذ من سخريته اللاذعة للسلطة منهجها، ولذلك لم تُترك مسرحياته تستمر لأكثر من ثلاثة ليال، ومع ذلك كانت الجماهير تتهافت عليها وتحفظ أسطرها وترددها باتساع البلاد. لم يكن فولتير مدع كان من تلك النماذج التي تتحمل ما يقع عليها من ظلم ولكنه لا يتحمل ما يقع على الآخرين، فالتعصب الديني وسطوة رجال دين تلك العصور المظلمة طالت كل من يحيد عن النهج الذي حددوه بخرافات وخزعبلات لا علاقة لها بالدين.

يُذكر فيما كتب عنه أنه تشبع بحقد هائل لا على المسيحية مثلما يدعي القساوسة المتطرفون، بل على الوحشية المنافية لهذا الدين الذي يرى أن التسامح والسلام هما ركيزتاه، فلقد تبرأت الكنيسة من الممثلة (أدريين ليكوفريير) التي تعتبر أعظم الممثلات في فرنسا لأن الكنيسة ترى أن عملها مخجل، ولما ماتت رفضوا دفنها بل رموها فوق كومة من (الكناسة) وسكبوا فوقها الجير الحي. ولقد سجن من أجل مبادئه ونفي بسبب قناعاته ولم يهدأ او يتغير. كان يرى أن: "الإنسان كائن حر، مسئول عن تصرفاته الشخصية، وساحة العدالة هي ضميره".

وهكذا يكون الحال: الإنسان هو الإنسان في كل زمان ومكان: عقله، ورغباته ونزعاته تقوده منذ فجر الحياة، إما للخلود، ويحتفظ لنا التاريخ بسيرته سواء كانت منيرة أو ومظلمة. بعضها يدخل البهجة والأمل والثقة في الله، وبعضها يذكرنا بحجم القبح في العالم. إن أغلب صناع البهجة، أو القبح عرفوا الله من بعد ابتعادهم عنه، وعادوا إليه. فالحق بيّن وكذلك الباطل.

(فولتير) كانت أخطاؤه كثيرة في حق نفسه، ولكنه وضح لأهله سبل الخروج من نفق التعصب الأعمى إلى عصر نور العقل

هذان نموذجان إنسانيان أحدهما عاش في دولة تعد فترة حكمها من أفضل عصورها المضيئة من بعد رحيل رسول الله صلى الله عليه وسلم وخلفائه الراشدين. والثاني عاش في زمن عصور أوروبا المظلمة التي وصل بها الجهل أنها حاكمت الدجاج، وأعدمته! وتشبعت بالخرافات والشعوذة والسحر ولكن عقول مفكريها ثابرت حتى أيقظت شعوبهم وأشعلوا ثورات أنارت العالم، وقادته من الظلام إلى النور.

(فولتير) كانت أخطاؤه كثيرة في حق نفسه، ولكنه وضح لأهله سبل الخروج من نفق التعصب الأعمى إلى عصر نور العقل. أما الثاني على الرغم من جمال شعره الذي يراه النقاد من أفضل أشعار الأدب العربي، فقد تكون أبيات توبته وهو على فراش الموت هي حقيقة ضرورة عودة الإنسان إلى خالقه. الاثنان عادا إلى خالقهما وطلبا غفرانه، ولكن ليس بمقدور أحد أن يتكهن بمن قُبلت توبته، فذلك من اختصاص الله وحده!.