Atwasat

حبال الكذب قصيرة

سالم العوكلي الأحد 09 سبتمبر 2018, 12:07 مساء
سالم العوكلي

"عندما ينبح كلب واحد لرؤية شبح، يتولى عشرة آلاف كلب مهمة تحويل ذلك الشبح إلى حقيقة".

ينطبق هذا المثل الصيني الأقدم من أقدم وسيلة إعلام على صورة الإعلام بمفهومه الواسع اليوم. تكرار الخرافة وتطقيسها يجعلها واقعة تاريخية، وتكرار الكذبة يجعلها حقيقة، والتكرار (حتى في الإيقاع) في جوهره أيسر الطرق للحصول على الوجد الذي يعمي العيون ويخدر العقل.
تحتاج وسائل الإعلام الآن إلى هذا الوجد الجماهيري كي تغزوه في عقر قناعاته، ومثلما بُنيت قلاع الطغاة على مثل هذا الوجد الصدِّيق حد العبادة، تبني وسائل الإعلام أبراجها على الأرض وتطلق أقمارها عبر السماء ليسيطر من خلالها قلة قليلة على ما يسمى ورع الرأي العام والذوق العام والحقائق العامة.

احتكار الخبر سلطة تشبه احتكار الخبز أو احتكار الماء، والتحكم في الأخبار رأسمال كل سلطة تحتاج لتقويض الحقيقة كي تفسح المجال لحقائقها التي تخدمها. انزعاج النظم الدكتاتورية والديمقراطية، على حد سواء، من مواقع التواصل عَرَضٌ للخوف على هذا الرأسمال، ومحاكمة مؤسس موقع الفيس بوك أمام الكونجرس تشي بهذا الخوف من الخطر الذي يتهدد منظومة الأسرار. كانت نظرات مارك زكربيرغ الهازئة تقول أن الفيس بوك ليس لكم أيها القضاة الهرمون، لكنه لجيل ولد فيه وترعرع ولم يصل قمة المناصب بعد، جيل ما عادت تهمه سرية المعلومات لأنه ولد في عالم شفاف من الزجاج سيزحف بضوئه على ما تبقى من عتمة. والسجين ويكيليكس أيضا يقول لمن يبنون مشاريعهم على السرية: الزمن سيتجاوزكم وستنتزع الحشود السلاح من يديكم حين تتدلى رؤوس الكذب في حبالها القصيرة، وسيضحك جيل قادم على عبارتكم الساذجة التي تخطونها على ملفات المؤامرات "سري للغاية" مثلما نضحك الآن على أكاذيب جوبلز وحكمة ستالين.

هل تريد أن تقضي علينا ؟ هذا ما قاله ستالين لوزيره في قطاع الاتصال عندما أخبره بتفاخر ساذج: وضعنا خطة تطمح لأن يكون في كل بيت في الاتحاد السوفياتي جهاز هاتف خلال عامين. لم يدرك الوزير المتحمس أنه وجه مدفعا لكرسي الإمبراطور ستالين وهو يحاول أن يبشره بهذا الإنجاز، فمنظومة سلطته المطلقة مبنية على العزل والتحكم في المعلومة والخبر، وهو يدرك ذلك جيدا مذ كان عاملا في منجم تحت سيطرة الإقطاع القيصري.

لن نذهب بعيدا ، لا في التاريخ ولا في الجغرافيا، فالقذافي حين وصل إلى السلطة فكر منذ البداية في كيف يسيطر على الأخبار ومصدر المعلومة ليحقق هذا الوجد الجماهيري الذي كان يهتف طيلة عقود من الخراب "علم يا قايد علمنا كيف نحقق مستقبلنا" ويغني "عدي بينا يا قايدنا عدي بينا .. غيرك ما يقود السفينة" والحشود مثل الضفادع التي يحملها السيل إلى أعماق البحر وهي تزغرد.

أمم الصحافة الخاصة كلها في صحيفة واحدة ما لبثت تتناسل صحفا أخرى تكرر ما تقوله الصحيفة الواحدة، سيطرعلى الراديو والتلفزيون، واستخدم أحدث التقنيات لمراقبة الهواتف وأقدمها لمراقبة الرسائل الورقية، حارب اللغة الإنجليزية كنافذة محتملة للحصول على معلومة مختلفة، منع في البداية صحون الساتيلايت ثم أصبح الحصول عليها بترخيص من الأمن الداخلي، مثلما فعل مع الانترنت فيما بعد.

أحد ما لقن الطغاة ما مفاده أن ثورة المعلومات والاتصال خطرة على النظم الشمولية لكنها قابلة لتحويلها من بعبع مخيف إلى حيوان أليف ينام على عتبة القصر، من وسيلة للحصول على المعلومة إلى منظومة تجسس على المجتمع برمته. من خلاله ستعرف بماذا تفكر الرعية، ومن خلاله ستعرف خطط أعدائك المحليين، فهذه الثورة عاصفة وعليك أن تدير العاصفة وتتحكم فيها بحيث تدمر كل شيء ما عدا القصر المتين، وكان الأمر في النهاية مثلما تسمح لشخص بحمل مسدس به جهاز تنصت لا يمنعه من أن يفجر به رأسك في أي لحظة نزق.

كانت النصيحة المفخخة : أسس لجيوشك الإلكترونية المحترفة والمنظمة، ودع كلابك تنبح في هذا الفضاء، وكرر ما تريد أن يرسخ في أذهان الناس، واجعل فتيل هذا السلاح الجديد في حوزتك ووزعه على الآخرين دون فتيل ودون نظام ليتحول إلى ما يشبه بنادق الأطفال البلاستيكية. من هذه النصيحة انفتحت بلادنا على الثورة الجديدة، لكن المارد خرج عن السيطرة، وإطلاق جيش أفاعٍ لتلاحق فئران المزرعة خطة خطرة حين يرتد السم إلى عروق مهندس الخطة.

كررت أبواق النظام أكذوبة الشعب المسلح حتى أصبحت حقيقة، وكرر أكذوبة أن ليبيا لم تعد تصلح وطنا وعلى الليبيين البحث عن ملاذ في الخارج حتى أصبحت حقيقة، وكرر أكذوبة "بالخبزة والما قررنا الحياة" حتى أصبحت حقيقة، كرر أكذوبة أن قطار الموت قادم حتى أصبح قطار الموت يتسكع في كل ربوع ليبيا التي خرَّجت مئات الطلاب المختصين في السكك الحديدية وعملوا في قطاع المواصلات حتى تقاعدوا دون أن يروا قطارا في ليبيا، إلا قطار الموت.

وكل ماكرره كانت آلة ضخمة تعمل على تحويله إلى حقائق يوما، خصوصا وهو يدرك أن أكاديمية الفساد التي أسسها ستخرج الكثير من التلاميذ النجباء الذين سيكررون هم أيضا أكاذيبهم التي ستتحول إلى حقائق يصرخون بها في الشاشات بكل يقين.
اختفى القذافي من المشهد، لكن كلبه الذي ينبح الأشباح كان من ضمن غنائم من حلوا محله، أما الكلاب التي تنبح كي يتحول الشبح إلى حقيقة فموجودة في كل مكان، في انتظار نبحة واحدة في ليل هذا الوطن البهيم، هذا الليل الذي لن ينقشع إلا بصحوة أخرى تصرخ بأعلى الصوت "الإمبراطور عريان".