Atwasat

الأيدي القذرة

نورالدين خليفة النمر الأحد 09 سبتمبر 2018, 11:59 صباحا
نورالدين خليفة النمر

تطوُّرُ الأحداث وتلاحقها من 26 .8. 2018 بهجوم ميليشيات على ميليشيات مسيطرة على العاصمة طرابلس منذ 2014 إلى إحاطة الممثل الأممي في ليبيا مجلس الأمن في 5. 8. 2018. يدفعنا تكتيكياً أن نتوّخى ونتجاوز افتراض ضلوع المعامل الدخيل العربي والإسلاموي المنافعي، الذي استبعده التأطير الدولي للقضية الليبية، وانصبُّ اهتمامنا على العملية التي انشعبت أواخر عام 2018 إلى فرعين المهمة الأوروبية المضطربة التي تظهرها التنافسية في سياسات كل من إيطاليا وفرنسا إزاء ليبيا مما يجعل الاستفتاء البرلماني على الدستور وتنظيم الانتخابات البرلمانية والرئاسية بسبب المماحكة أمرًا غير مرجحٍ بنهاية عام 2018.

والمهمة الدولية المجددة كعملية (Process) منتجة. بتعيين القائمة السابقة بأعمال السفارة الأميركية في ليبيا ش. وليامز مساعداً لرئيس البعثة غ.سلامة. والمرّجحة بإدارة القوى النافذة في مجلس الأمن للقيام بمساع حثيثة من أجل ترتيبات أمنية أعمق وأوسع في طرابلس العاصمة تقود إلى العملية السياسية لانتخابات دستورية وديمقراطية معتمدةً على إضعاف شامل بغرض استبعاد التأثير الفوضوي لصنّاع الحدث الليبي سياسات، وإفسادات مالية وميليشيات، بيادق على رقعة الشطرنج .مُستهدف "الأيدي القذرة" تلخصه عبارة سارتر "أن نموت يعني أن نصبح فريسة للأحياء وحين نكف عن الوجود تسير حياتنا نحو قدرها المعتاد".

وكتابه محاولة من الفيلسوف الوجودي، إدخال الفلسفة إلى السياسة أو، بشكل أدق، الوجودية إلى الماركسية، بل كان هدفه أن يُصلح مؤسستها ورمزيتها الطهرانية المتمترسة خلف دوغمائية متشددة، باسم الحقيقة مطلقة الصحة والمبادئ التي تتعالى على حياة الناس ومصالحهم. مقالتي المبكرة: "ماتو الليبي.. قراءة في أجندة المحترب" كشفت من أعني به من يُطلق عليه منذ 2014 إلى اليوم الميليشياوي الليبي، الذي استخدمه السياسيون الذين تواتروا على المؤسسية الليبية المؤقتة المنتهية في البرلمان العاطل عن العمل والذي يسعى أعضاؤه إلى تخريب العملية السياسية لتحقيق مآرب شخصية خلف ستار الإجراءات ومقصدهم كما أوضح رئيس البعثة الأممية في إحاطته أنهم ببساطة ليست لديهم النية في التخلي عن مناصبهم. ومن أجل طموحاتهم الشخصية، دفع جميع مواطني ليبيا أثماناً باهظة من استقرارهم وحياتهم“.

متحدثي الألماني وهو يستمع إلى سرديتي لما تداولته وسائل الإعلام، وماوردني من معلومات من داخل المجزرة الليبية المُفبركة التي أطبقت على العاصمة طرابلس، وصفّ النزاعية الميليشاوية الليبية وقد تجاوزت قوانين الحرب الأهلية بالحرب الفوضوية بالمعنى الذي تفيده كلمة "الأناركية" حيث يقتل الميليشاوي الميليشياوي المضاد، دون معنى وهدف مؤسس على قاعدة أو أدني مبدئية تفهّم .الأمر الذي ينظر له الكولونيل الأمريكي ديف غروسمان في كتابه "في الحرب المجتمعية.. التكلفة النفسية لتعلم القتل"، فيضع أربع مسبّقات تُحدد المحفّز الكامن وراء قرار القاتل ـ وفي الحالة الليبية المقاتل الميليشاوي الأناركي ـ لقتل ضحيته (أو المشتبه به) ويموضعه في مايطلق عليه بـ "المسافات" التي تفصل بين القاتل وقاتله المضاد له:المسافة المادية أو الميكانيكية: فغالبًا ما يجد الإنسان السوي صعوبة شديدة في قتل شخص آخر على مسافة قريبة منه، حيث كما بيّن ذلك أندريه مالرو في روايته "القدر البشري" يشعر بأنفاسه ويرى الخوف في عينيه. بينما يبدو الأمر مختلفًا عندما تفصل مسافة بين القاتل والمقتول، فبالإضافة إلى لمدفعية المضادة للطائرات والمستخدمة في التقاتل الأهلي والتي يشار إليها بالرمز (م / ط ) أو 14.5، استعملت قوات ميليشيات "الكانيات" بمُسمى الجيش السابع ـ بترهونة في منطقة كثافة سكانية صواريخ غراد (BM-21) وهو ما أاعتبر مستجّداً لافتاً في حرب ميليشيات طرابلس نظراً لمداها القصير ولفعاليتها التدميرية، من جانب، ومن جانب آخر شكوك الخبراء العسكريين، في قدرتها على إصابة الأهداف، ولكن العدد الكبير من الصواريخ المنطلقة من منصّة الإطلاق تبقى قادرة على تغطية مساحة واسعة من التدمير العشوائي الشامل.المسافة الثقافية والاجتماعية : وتتمثل في موضعة الآخر نموذجاَ بشرياً أدنى قيمة، يتم تجريده أحيانًا من إنسانيته الكاملة. ففي العصور الوسطى، كان من الصعب أن يقوم جندي بقتل لجندي من قوات العدو وهو يرتعد (وغير راغب في القتال).

فكان الفرسان من النبلاء هم من يقومون بجُل أعمال القتل، فهم ينظرون إلى الجنود على أنهم كائنات أدنى منهم منزلة، وأن فقدانهم ليس بالأمر المهم. وكذلك تعامل النازيون مع اليهود قبيل الحرب العالمية الثانية، والأمريكان مع السود خلال القرنين التاسع عشر والعشرين.المسافة الأخلاقية :حيث يُرى في الآخر نموذجًا غير أخلاقي، يتجه بالبشرية نحو الانحدار، ومن ثَمَّ وجب قتله. كل هذه المسافات قد تنتج عن قناعات الفرد نفسه، أو قد تُزرع قسرًا داخله عن طريق المجتمع أو من طرف منظومة عمله (الأجهزة الأمنية). ووجود هذه المسافات لا يلغي العوامل الأخرى التي تدفع المتحاربين المنفذين لأوامر القتل خارج إطار القانون، بدايةً من الخوف، ومرورًا بالانتقام، ووصولًا إلى الكراهية.

بدأ سارتر مساره الكتابي بعد الحرب العالمية سيكولوجياً محبطاً فنشر مؤلفاته: في "المخيلة" و"تصور لنظرية الانفعالات" وروايته الأولى التي استثمر فيها تضلّعه في السيكولوجيا البشرية القلقة والعدمية التي صاغها في ما بعد في مؤلفه الفلسفي "الوجود والعدم" وقدّمها للناشر غاليمار رواية بعنوان "كآبة ـ ميناخوليا" بسبب رفضها لأجل العنوان ، صارت "الغثيان" اسمها الذي نقرأها اليوم به فيعبر عن النبوئية السارترية عن زماننا الليبي الفوضوي من عام 1969 إلى عام 2018. كتاب سارتر السيكولوجي"التفوّق على الأنا" كان فاتحة فلسفة متفائلة في الحرية أبرزتها كتابات أخرى فلسفية كـ نقد العقل الجدلي وإبداعية كـ: الذباب، ودروب الحرية، بل كتابات تصحيحية كـ: شبح ستالين، وثورية كشفت عار فرنسا في مستعمراتها السابقة منها الجزائر البلاد التي تخطتها ثوراث الربيع 2011 لتسقط واحدة في جارتها ليبيا التي نتفاءل دائما بمستقبلها دولة دستور وديمقراطية تملك إمكانات العدالة والرفاهية التي لن تتحقق إلا بعد أن تنسحب من دمها الأيدي القذرة للتسيسات العدمية والميليشيات الفوضوية التي نجحت في أن ُتقدم هذه المرة على الخطوة الشجاعة بأن ضربت بعضها البعض لتموت .