Atwasat

أفلام وتاريخ

صالح الحاراتي الأربعاء 05 سبتمبر 2018, 09:37 صباحا
صالح الحاراتي

في زمن ولى، كان هناك اثنتان من دور العرض السينمائي في مدينتى الصغيرة، واحدة جيدة بها كل مواصفات الجودة مثل أي دار عرض جيدة في عاصمتنا طرابلس، والأخرى متواضعة وسينما صيفى كما تسمى.. كانت نوعية الأفلام في ذلك الزمن وكالمعتاد إما أفلاما عربية "مصرية تحديدا" أو اجنبية.. والأجنبية غالبا إما "كاوبوى" أو "أكشن" أو "طرزان" أو"تاريخية" تؤرخ للمرحلة الرومانية ومنها أفلام "المصارعة" والبطل الأسطوري "هرقل" وما إلى ذلك.. ولكن ما كان يثير انتباهي في تلك المرحلة العمرية، هو أفلام المصارعة التي تدور أحداثها على مسرح الكوليسيوم بروما بين الأسرى والوحوش الكاسرة التي تفتك بهم وتلتهمهم.

علمت في عمر لاحق أن هذه المبارزات (الوحشية) كانت اللعبة الأكثر شعبية لدى الجماهير الرومانية القديمة، ولها قوانينها وطقوسها ومقاتلوها المحترفون، ويسمونهم "Gladiatori "، وتعني باللاتينية «المسايف»... وفي القرن السادس، وبسقوط الإمبراطورية الرومانية عام 476، تم منع منازلات الكولوسيوم نهائيًا.

* استولى الرومان على المدن الثلاث في ليبيا، لبدة وأويا وصبراتة، من الفينيقيين بعد هزيمة قرطاجنة. ولدينا مسرح "باركو" الدائرى بمدينة لبدة، ولا أعرف هل كان ذلك النوع من المصارعة يتم هناك أم الأمر كان محصورا على مسرح الكوليسيوم بروما فقط.

حتى اليوم لا زلت أتذكر مشاعري في تلك الأيام عند مشاهدتي لهذه الأفلام، وكيف كنت مندهشا، وأشعر بالتعاطف وأسأل كيف لأولئك القوم أن يستهينوا بحياة الإنسان لدرجة تركه يصارع الأسد في حلبة مغلقة!!، ويستحضر عقلي حينها، وهو الذي تمت برمجته بناء على ما قيل لنا في كتب التاريخ؛ وما ترسخ فيه من خلال المنهج المدرسي ومما يقال لنا من الشعر والحكايات والبطولات والأحاديث الكثيرة التي تتناول المروءة والشهامة في تاريخنا وموروثنا الثقافي، كان عقلي يقوم بعملية مقارنة عفوية بين ما يحويه تاريخنا وبين أفعال الرومان القدماء! وتحدثني نفسي بأن الذين يذهبون، للترفيه عن أنفسهم، من خلال مشاهدة الأسرى وهم يلقون للأسود الجائعة هم أناس متوحشون فالمعركة غير عادلة ووحشية بين الأسير المسكين والحيوان المتوحش، صورة لا إنسانية على الإطلاق، إذ في الأغلب سينتصر الأسد على الإنسان وسط دهشتي واستغرابي لتهليل الجمهور لهذا العنف والقتل!.

كانت الصورة المثالية لسيرة أسلافنا التي نقلتها لنا كتب التاريخ بصورة وردية حاضرة، وأيضا ما رأيته وصدقته حينها من خلال أفلامنا العربية "الناصر صلاح الدين" و "فجر الإسلام" ناهيك عن "عنترة" وبطولاته وشجاعته وشعره الملحمي الجاهلى، كل ذلك وغيره أنتج صورة عالقة بالذهن جعلتني أشك الادعاء بأننا أكثر رقيا وإنسانية.. وكنت مصدقا لما سمعته عن حاكم عربي مسلم أمر بنثر الحب على الجبال حتى تأكل الطير منه حتى لا يقال إن الطير جاع في بلاد المسلمين!.

في طفولتي وصباي كنت متيما بأننا خير أمة أخرجت للناس!.. وفي مرحلة لاحقة كانت الأناشيد والإذاعات ذات النسق القومي في ذلك الوقت تفعل فعلها باستثارة الشعور القومي والحمية العصبية "الموضة فى ذلك الزمن"، وتكتمل الصورة بخطيب الجمعة الذي يضفي على تاريخنا المسحة الملائكية وكأننا شعب الله المختار.

كنت حينها، لا أعرف الشيء الكثير عن ممارسات مشينة تمت خلال ما نسميه تاريخنا الزاهر .. وربما لو عرفت عرضا أو قرأت شيئا هنا أو هناك، ﻻ أملك الشجاعة الكافية لنقده أو البحث في دلالاته.

كان تناولنا لتاريخنا في فيلم سينمائي لا يحوي من المثالب ما يستحق الإشارة إليه وكشفه والاعتراف به من باب الاستفادة والعبرة من الماضي؛ ولكن جرت العادة على ترسيخ العنتريات و"النفخة الكذابة" والتاريخ الناصع الزاهر!.

عند النظر لتجربتنا الإنسانية عبر تاريخنا بأمانة وصدق، نجد أننا نتجاهل ونتغافل عن النظر إلى الجزء المظلم الذي يغص بالظلم والمجازر والإبادة من التحريق والصلب إلى الخازوق العثمانى!.

باستمرار رحلة العمر؛ أتاحت الأيام لي قراءة الكثير عن الحوادث والمآسي والفظائع في تاريخنا وتأكدت بعد فترة من الوهم أن ما تم تدريسه لنا في المدارس أو تم عرضه علينا سينمائيا وإعلاميا، كان انتقائيا بامتياز، وتم تقديم كل ما هو جيد "وهو القليل" وإخفاء وغض الطرف عن كل الكوارث والعورات "وهي كثيرة" وغالبة على المشهد بشكل عام ابتداء من قتل الخليفة عمر ثم من بعده ﻗﺘﻞ ﻋﺜﻤﺎﻥ ﺑﻦ ﻋﻔﺎﻥ ﻭهو يقرأ القرآن، وﺑﺎﻟﺮﻏﻢ ﻣﻦ ﻛﻮﻧﻪ ﻭﺍﺣﺪﺍ ﻣﻦ ﺍﻟﻤﺒﺸَّﺮﻳﻦ ﺑﺎﻟﺠﻨﺔ.. ثم الفتنة الكبرى وﻗﺘﻞ علي ﺑﻦ ﺃﺑﻲ ﻃﺎﻟﺐ ﻭﻫﻮ ﺭﺍﻛﻊ ﻓﻲ ﺻﻼﺓ ﺍﻟﻔﺠﺮ ﻓﻲ ﻣﺴﺠﺪ ﺍﻟﻜﻮﻓة ﺑﺎﻟﺮﻏﻢ ﻣﻦ ﻛﻮﻧﻪ ﺍﺑﻦ ﻋﻢّ ﺭﺳﻮﻝ ﺍﻟﻠﻪ ﻭﺻﻬﺮﻩ ﻭأﺣﺪا من ﺍﻟﻤﺒﺸَّﺮﻳﻦ ﺑﺎﻟﺠﻨﺔ.. وﻗﺘﻞ ﺍﻟﺤﺴﻴﻦ ﺣﻔﻴﺪ ﺭﺳﻮﻝ ﺍﻟﻠﻪ ﻭﻗﻄﻊ ﺭأسه!.

كانت براءة الطفولة هي الحاكمة على العقل وكنت أصدق ما يقوله لنا التاريخ؛ لم أكن أعرف ماذا حدث للخلفاء واغتيالهم واحدا تلو الآخر ولا أعرف ماذا حدث للمعتزلة ولا للحلاج والسهروردي وابن جرهم وابن المقفع، وما فعله خلفاء الأمويين والعباسيين وما تلاهم من قتل لإخوتهم بشكل متتالٍ من اجل السلطة..

"اليوم صار عقلي لا يتقبل تلك الصورة الوردية الزاهرة بل أظن أنها حواديث ومرويات مختلقة ومزورة؛ وإن كانت تحمل بالقطع شيئا من الصدق والحقيقة ولكنها مبالغ فيها حد التزوير".

تراجعت رؤيتى والصورة الذهنية التي كنت عليها أيام أفلام الرومان ومصارعة الاسود.. وتأكدت أن الإنسان هو الإنسان وأن مسيرته من اجل الترقي وغعلاء قيم الخير ستمضي في طريقها إلى نهاية الحياة وأن لا ميزة لعرق أو قومية او دين إلا بقدر ما يضيفه لتلك المسيرة الخيرة.

ولعل أكثر ما يثير في عقلي هذه الذكريات عندما أتذكر ما فعلته "داعش" من افعال بشعة، ويستحضر عقلي من التاريخ تلك الميتة البشعة لابن المقفع وهو مؤلف وكاتب وأشهر كتبه "كليلة ودمنة ".. هناك روايات تقول انه ترجمه عن الحكيم الهندى بيدبا. وهناك من يقول أنه كتابه ولكنه نسبه إلى بيدبا حتى لا يحاسب على ما ورد فيه. حيث تم تكفيره وقتله بعد أن كتب "رسالة الصحابة" ناصحا الخليفة.. حين "وجد الفساد يتغلغل في الدولة" كتب رسالته ونصح بحسن اختيار رؤوس الدولة بعد أن اكتشف أن هناك مرءوسين أكفأ من رؤسائهم، ونصح بتثقيف الجند ثقافة علمية وخلقية، وتعليمهم الكتابة.. فكانت رسالته تلك هي التي قادته إلى ذلك المصير؛ حيث وكعادة شيوخ السلطان كفروه وقالوا أنكر الصفات عن الله وما إلى ذلك.. وحكموا بقتله وتم تنفيذه بأبشع طريقة، حيث وثق بالحبال ثم انهالوا عليه بتقطيع لحمه قطعة قطعة ويلقون بها في النار أمام ناظريه حتى مات .

* لا يوجد تاريخ ناصع ووردي لأية أمة واعتقادي بعد "هوجة داعش"، لا شك لدي أنه حان الوقت لأن نغادرهذه المحطة التاريخية التي لا زلنا نعيش تحت عباءتها؟.