Atwasat

مؤلمة دموع المغدور- 2

محمد المهدي الفرجاني الإثنين 03 سبتمبر 2018, 11:12 صباحا
محمد المهدي الفرجاني

وصلت مساءً إلى مكتب رئيس الجهاز، وكان معه المدعو إبراهيم ابجاد سكرتير معمر القذافي للمعلومات، وحاول تبرير ما حدث، ولكنني لم أجادله، أخبرته أنني في الطريق إلى يوسف في اليونان، وسأبقى معه إلى أن يأتي الله بأمر كان مفعولا؛ إذا مات سأرجع به لأدفنه في ليبيا، وإن عاش سأقطع علاقتي به نهائيا. وهنا سحب رئيس الجهاز درج مكتبه وناولني 5 آلاف دولار مصاريف للرحلة كما طلب مني أن أعرض على يوسف أن الدولة الليبية ملتزمة بعلاجه في أي مكان في الدنيا يختاره.. وغادرته.

زرت يوسف بالمستشفى، رفقة عمر الغرياني وفرحات احواس، وبمجرد أن رآني دمعت عيناه، قائلا: " كنت متأكد أنك ستأتي، وأنا آسف لأنني سببت لك من المشاكل ما أنت في غني عنها" وأخبرته بعرض رئيس الجهاز، ورفض العرض واستلام أي مبلغ، وبقيت في أثينا إلى أن غادر يوسف المستشفى بسلام إلى بيته.
في اليوم التالي لخروجه من المستشفى حضرت إلى بيته بدعوة منه لتناول وجبة الغداء، وجدت العقيد دكتور إدريس البشاري، وأشقاء يوسف، وحاول إدريس البشاري التحرش بي بعد أن عرف من أنا، ولكنني حجمته لأنني لست في حالة نفسية تسمح بأي احتكاك، مع أي كان، وغادرت بيت يوسف إلى الفندق استعدادا للرجوع إلى ليبيا. في المساء قدم يوسف وأخوته لزيارتي بالفندق، وطلب مني أن أشير عليه إلى أي دولة يلجأ، كانت مصر والعراق هما الدولتان المتاحتان للمعارضة ولكنني لم أشأ أن أشير عليه، وإن قلت له مازحا: "اذهب إلى إسرائيل" فهي أكثر أمانا!".
تحدثنا طويلا، إلى أن استأذن للمغادرة متمنيا لي سفرا سعيدا، عندها قلت له: "الآن يا صديقي نفترق على خير، ومن الآن، ومهما كانت الظروف لن أتصل بك أبدا، وإذا فعلت فتأكد أنني مجبر على ذلك. لا تقابل أي طرف يخبرك أنه من طرفي لأنني لن أبعث أحدا بكل تأكيد". وتفارقنا.
رجعت في اليوم نفسه إلى بنغازي، بعد أن مررت على رئيس الجهاز وأعلمته بما تم بيني وبين يوسف، وقدمت له استقالة مكتوبة بخط يدي، مسببة من 15 صفحة فولسكاب أبرزت فيها نقدي لأسلوب الجهاز في معالجة المعارضة في الخارج، فالجهاز لا شأن له في الصراعات السياسية، مهمته المراقبة والرصد ورفع التقارير أما المعالجة والتنفيذ فليس من مهمة الجهاز. وأكدت له أنني من الآن لم أعد من الضباط العاملين لأنه يصعب على كثيرا أن أكون ضمن جهاز مبني على الزيف والغدر.
خدعنا الزمن، وتقدمت بنا السنون. سنة 1988 امتهنت العمل الحر، ولكن الحقيقة أنني لا أعرف عملا في حياتي إلاّ أن أكون ضابط مخابرات. لا أجيد أي عمل آخر. وجدت نفسي في الشارع الذي كنت أظن أنني أعرفه، لكن بعد ستة أشهر من خروجي من الوظيفة العامة اتضحت لي ليبيا تماما، وأيقنت أنني لا أعرفها؛ ورأيت الوجه الآخر لبنغازي، الذي كان أكثر من قاسٍ، وتذكرت حديث صديق قال لي ذات مرة: "لكي تعيش في هذا البلد يجب أن يكون لديك المال، فإن لم يكن لديك منه شيء يجب أن تكون لك السلطة، ومتحكما فيها، وإن لم تكن هذه السلطة، فتأكد أنه لم يعد لك شيء لمواصلة حياتك إلاّ "صحة الوجه" وتتجاوز عن مسألة الكرامة وتقبل الإهانة! ذلك إن أردت أن تعيش".
تأملت كلمات صديقي، فلقد كنت أعيش حياة الظل، لم أتقدم إلى الجهاز الذي امتص زهرة شبابي، وأنا الذي لا أملك من هذه الدنيا إلاّ مرتبي، بأي طلب لمساعدتي في الحصول على عقد مع أية جهة وامتهنت العمل في التصدير والاستيراد، في مكتب صغير في مدينة بنغازي. مضت سنوات وسنوات، ورجع (التائبون) الذين تخلّوا عن المعارضة وقدموا فروض الولاء والإخلاص لنظام القذافي، الذي قدم لهم الشقق السكنية والشاليهات والعمل والسيارات، وقبل هذا وذاك قام نظام القذافي بسداد ديونهم في الدول التي كانوا يعيشون فيها.
وكمثال فقط، أذكر هنا صديقي عبد السلام بالتمر، الذي تم إقناعه ورجوعه إلى ليبيا واحتضنه صديقي فرج العريبي، الذي رعى أموره الحياتيه. في البداية كان عبدالسلام بالتمر في أثينا، لا شأن له بالسياسية. كان يمتهن العمل في البحر على (اللنشات) وهي لمن لا يعرف تلك القوارب التي تساعد البواخر على دخول الميناء ويطلق عليه أصدقاؤه لقب (رايس) التحق بالعمل في ميناء الزويتينه النفطي في مجاله. في أثينا تعرفت عليه، كان يرافق محمود الغزال، وعلى فترات متباعدة يرافق صالح بوزيد الشطيطي الذي اغتيل في أثينا. والتحق عبد السلام بجبهة الإنقاذ، التي يرأسها الدكتور محمد يوسف المقريف، وكان مقرها في مصر، وتحت حماية الدولة المصرية، وسافر باسمها إلى السودان برفقة الدكتور يوسف الأمين شاكير، ولكن يبدو أن الدكتور محمد يوسف المقريف شعر أنهما على اتصال بالنظام الليبي، فأبعدهما من مصر إلى هناك ومنعهما من استعمال التلفون الدولي. لم يعجب ذلك عبد السلام بالتمر، ورجع إلى مصر وأجرى اتصالا بالسيد محمد سكري الحاسي عضو القيادة القومية لحزب البعث العربي الاشتراكي العراقي، وترك عبد السلام جبهة الإنقاذ والتحق بحزب البعث في مصر وأصبح مندوب محمد سكر في الجبهة. كان حزب البعث يعطى منحا مجزية، بما في ذلك مرتب خصص للسفير السابق لنظام القذافي في العراق السيد صالح السنوسي عبد السيد العبيدى.. وكانت علاقات عبد السلام بالتمر في مصر ممتازة بجهاز مباحث أمن الدولة.
بعد محاولة اغتيال يوسف إبراهيم عقيلة في أثينا، وبعد أن شفي من جراحه ذهب إلى مصر للإقامة فيها. تولى جهاز أمن الدولة المصري فحص جوازه، وعثروا على تأشيرة الخروج التي قمت بختمها له من جوازات طرابلس.عرف الجهاز أنه بقي في ليبيا والمدد التي قضاها هناك. رفض الجهاز شكلا وموضوعا منحه تأشيرة الدخول. ولما كان عبد السلام بالتمر منسقا بين الجبهة وحزب البعث من جهة ومع مباحث أمن الدولة المصرية من جهة أخرى، وكان عبد السلام بالتمر تربطه علاقة بيوسف عقيلة وترافقا معا في اليونان لسنوات، اتصل يوسف بعبد السلام، وأخبره أن جهاز مباحث أمن الدولة اعتقله، وهو يقبع في سجن القلعة، الذي ظل به لمدة 15 يوما، الأمر الذي جعل عبد السلام يتصل بأصدقائه النافذين في الجهاز، فأفهموه أن يوسف كان يتولاه ضابط أمن في جهاز الأمن الخارجي يدعى محمد المهدي الفرجاني، فكان ذلك مفاجأة لعبدالسلام بالتمر الذي نفى أن يكون يوسف قد ذهب إلى ليبيا، وأن الموضوع بالتأكيد مجرد افتراء. عندها أخبره الضابط المصري المكلف بملف يوسف أن يجلس في غرفة مجاورة لا باب لها بهدوء وينصت للحوار ما بين الضابط ويوسف، وأجاب يوسف على أسئلة الضابط بأنه كان في ليبيا بترتيب من العقيد يونس بلقاسم الذي كلف الرائد محمد المهدي الفرجاني بالمتابعة، وأضاف أنه حضر إلى أثينا قبل وبعد محاولة الاغتيال، وأنه بقي معه إلى أن خرج من المستشفى ثم غادر إلى ليبيا.
تأكد عبد السلام بالتمر أن يوسف كان في ليبيا عندها وافق على عدم استضافة يوسف في مصر باعتباره يشكل خطرا على كل المعارضين الليبين المتواجدين في مصر. وهكذا طُلب من يوسف مغادرة الأراضي المصرية، فاختار العراق للإقامه فيه.
رجع يوسف عقيلة سنة 1988 إلى بنغازي وامتهن تجارة الأحذية، واتخذ محلا بمبنى جمعية الدعوة الإسلامية مقرا لتسويق سلعته، والتقينا في بنغازي وكان دائم الزيارة لي بشاليه كنت أملكه بمصيف النيروز في بنغازي، وعندها فقط عرف أن أسباب استقالتي هي تلك الحوادث التي ارتكبها نظام القذافي في حق مواطنين ليبيين لا ذنب لهم إلاّ أنهم قالو "لا" بصوت مسموع للغاية لذلك النظام.