Atwasat

أطول الرحلات

محمد عقيلة العمامي الإثنين 03 سبتمبر 2018, 11:09 صباحا
محمد عقيلة العمامي

الحب الحقيقي، لكل شيء، يزرع في المرء الأخلاق الحسنة والتسامح، وعندما تتأصل فيك هذه الخصال، وتصبح سلوكا طبيعيا في تكوينك، سوف تعرف روعة الكبرياء والاعتزاز بالنفس؛ عندها لن تتحطم روحك مهما أصابها من ضربات عنيفة، حتى عندما تسيطر عليك نفسية سيئة كتلك التي تصيبنا في شهر مارس تحديدا، إذ يرجح الكثير من الفلكيين تأثير هذا الشهر على نفسية البشر خصوصا النساء، فيكثر تقلبها، وهذا في الواقع سببه طبيعة الأنثى العاطفية وليس بسبب خلل في تكوينها فالعلم أثبت حقيقة أن الذكر يفكر بعقل والأنثى بعاطفة. مارس هو بالتأكيد نهاية الربيع وهو شهر العاطفة أكثر منه شهر العقل.

عند امتهاني لصيد السمك، عرفت الكثير من الخرافات عن شهر مارس، إلى أن وجدت فيما بعد تفسيرا علميا لما يعتقده الصيادون، أو الرياس، مثلما نسميهم في ليبيا: أنهم يقولون إنه شهر رياح (لمباركات) التي تفاجئك في عرض البحر ولا تعرف من أي جهة تنفخ غضبها. ويتجنبون قدر المستطاع الإبحار خلاله على الرغم من معرفتهم بصيده الوفير.
بعضهم قال لي: "كثيرا ما سمعت أصواتا تنصحني بالعودة إلى البر، وكثيرا ما سمعت وقاربي يسري في ليل مارس البهيم، طبولا وأصواتا وكأنها مدائح وابتهالات، بل سمعت مرة ذئابا تعوي.. وأقسم لي رايس أن عروس بحر تمسحت بقاربه وعندما اقترب منها كانت مجرد غولة قبيحة؟.
ثم عرفت في ما بعد أن الشمس تكون عمودية على خط الاستواء ما بين 20 و23 من شهر مارس، ويقال إن الأفاعي والهوام تخرج خلالها من جحورها، وإنه شهر متقلب الرياح، حتى أن الإيطاليين يقولون "مارس مجنون" والشوام يقولون "آذار غدار".
هناك كتاب هو في مجمله شبه سيرة ذاتية عنوانه: كبر صبي ذاك العجوز (The Old man’s Boy Grows Older) يتحدث فيه الكاتب عن جده، يقول في فقرة من فقراته: "إن شهر مارس مهيب ومن المفيد أن يكون جزءا من ذاكرتنا".
وتعيدني فقرات كثيرة من الكتاب إلى حالات مررت بها، والآن من بعد السنوات الطويلة التي تركتها ورائي أجدني، وكأنني اقتنعت بها ورسمت حياتي على أساسها، والعجيب أنه يقول في فقرة أخرى: "في تقديري أن السنوات بين الأربعين والستين هي أفضل مراحل الرجل، إذ تظهر خلالها كفاءته، ويستطيع أن يفعل أي شيء تقريبا، بكفاءة حسنة للغاية، على الرغم أنه لم يعد بمقدوره أن يقفز إلى أعلى، ولكنه يستطيع أن يمشيء بهدوء".
وشدتني كثيرا فقرة أخرى تقول: إن الثراء ليس الجري خلف أموال أكثر مما تحتاج، إن الثراء هو أن يكون لديك الوقت لتفعل ما تريد أن تفعل.. الثراء هو أن يكون لديك ما يكفيك لتعيش، وسقف يظلل رأسك، وشص لصيد السمك، وقارب... إن الثراء ليس في امتلاك المال، والسعى لإنفاق ما لا تملك".
وتذكرت البحث المتصل عن (مكادي) عن التناغم الإنساني الذي يبحث عنه كل من زرع فيه الله أنه خليفته على الأرض. فلا علاقة مطلقا لهذا التناغم، بمركز مرموق، أو مال قارون، أو شهرة؛ لأنها أشياء تنالها إن جعلت منها هدفا وتصل إليها إن وضعتها نصب عينيك. التناغم النفسي هو الذي يقودك لمن تريد أن تشاركه إنسانيتك، سواء أكان نصفك الآخر، أو صديقك أو جارك أو معلمك.. أما والداك فهما أساس هذا التناغم.
إن ما تقوم به، وأنت تصطاد السمك، إن لم يكن مهنة فهو هواية، ولكنه ليس ترفا، مثلما يعتقد بعض السطحيين، أو تباهيا، ولا وجبة تأكلها، ولا رياضة.. ولا رعشة جذب السمكة للشص. ولكنه أكبر من ذلك بكثير. إنه جزء مهم من إنسانيتك، وعلاقتك بالآخر.. هذه العلاقة التي لا ينبغي حصرها في بني جنسك فقط، ولكن بكل من يشاركوننا الحياة فوق هذا الكوكب منطلقا من نفسك، وممن تراهم يدخلون عليك سعادة وحالة من التناغم. فلا ينبغي أبدا أن يفرط المرء في أساس سعادته، ولا ينبغي أن يحمل هم الدنيا فوق رأسه طوال الوقت، خصوصا إن كنت عاجزا عن التخلص من أسبابه، مثلما يحدث لأهالينا الآن في طرابلس. الهم لن يعطيك أبدا السعادة ولو امتلكت مال قارون. ولماذا كتبت هذه الخاطرة، لأنني سألت، أحد الرفاق، عن أحوال صديق، أعلم أنه وطني جدا ومهموم على الدوام بقضايا بلادنا فقال لي: "إنه بعيد عن همومنا.. عطاه ربي! امتلك قاربا جيدا وتعلم صيد السمك، بل وتعلم أكله..". أحسسني وكأنه يراه قد تخلى عن قضية الوطن.. ولا شأن له بهموم الناس. وهذا غير حقيقي لأن تأملك للبحر الساجي، يمنحك تناغما يجعلك أكثر تركيزا وإحساسا بكوكبنا كله ونحن مجرد نقطة فيه.. البحر ليس هروبا ولكنه وسيلة فعالة لأطوال الرحلات: الرحلة إلى الداخل إلى أعماق نفسك، عندها ستقف على أخطائك وتجد لها سبل تصحيحها ومعالجتها. قد يكون عجزه عما يفعل تجاه ما يحدث الآن تماما مثل عجزي أنا.
ويا رفيقي صديقنا ليس (امبرد رأسه!) على الإطلاق. إنه في أطول رحلاته! وقد يعود منها بما تحتاجه أنت والحاجة المباركة التي تبتهل أن يفتح الله عليك، وتأكد أنها تقصد أن يفتح مداركك وعقلك، وليس عينيك الساحرتين فقط!.