Atwasat

التاريخ في ذمة السريالية

سالم العوكلي الأحد 02 سبتمبر 2018, 10:58 صباحا
سالم العوكلي

في الثمانينات انتبهت لأبي يكدس الطحين والأرز في مخزن بالبيت، ولا يُفوت فرصة الحصول على كيس منها حتى يدخل به محمولا على ظهره، وحين كنا نلفت نظره إلى أن المخزن مملوء، كان يقول: زيادة الخير خيرين مرات تصير حرب، وكنا نضحك على خياله ونضيف هذا الاحتمال إلى مخزوننا من التصورات السريالية، ففي ذلك الوقت كنا نعتبر الحرب في ذمة التاريخ واحتمالها مستبعدا، ورغم أن حروبا اندلعت على الحدود مع مصر ومع تشاد، ورغم الغارة الأمريكية على مدينتي طرابلس وبنغازي، إلا أننا كنا نعتقد أنها حروب محدودة وليست كافية لأن ينفد الطحين والأرز من الأسواق، ولا لأن تحدث مجاعة كما عاشها أبي أثناء الاحتلال الإيطالي أو الحرب العالمية الثانية التي استضافت جزءا منها أرضنا.

فكرة الحرب الأهلية فهي تتجاوز الخيال السريالي بمسافات طويلة

أما فكرة الحرب الأهلية فهي تتجاوز الخيال السريالي بمسافات طويلة بعد أن أصبحت ليبيا نسيجا واحدا كما تخبرنا أدبيات المرحلة المرحة. رأى أبي على شاشة التلفزيون عمليات شنق المعارضين في رمضان والهائجين من القوى الثورية يصفعون وجوههم المخنوقة في الحبال ويبصقون عليهم، وكان أبي الذي عانى سنين داخل المعتقلات يقول: حتى الطليان لم يفعلوا ذلك. لذلك فالحرب أصبحت احتمالا قويا لديه لأنه يدرك أن القهر والظلم هما الطريق المزدوج المؤدي إليها، بينما نحن في الجهة الأخرى كنا نضحك على خيال هذا الشيخ السريالي الذي يبدو أن كوابيس الماضي مازالت تلاحقه.

حين كنا العام 2007 نتلقى ورشة عمل في دبي حول كتابة السيناريوهات المستقبلية ضمن مشروع ليبيا 2025 ـ رؤية استشرافية، كتب المحاضر على السبورة الإلكترونية احتمال (موت القائد) ثم التفت وقال: ماذا تتوقعون لو مات القذافي فجأة؟. صدمنا السؤال الذي يصعب حتى التفكير فيه سرا في ليبيا التي شعار حكمها الأثير: القاتح أبدا. بالطبع ارتبكنا جميعا، خصوصا وأن هذا السؤال المسكوت عنه أصبح مقلقا لليبيين في العقد الأخير من حكم القذافي في غياب أي بديل للحاكم الذي ما عادت المساحيق قادرة على إخفاء شيخوخته، فالسلطة نظريا في يد الشعب ويد الشعب في جيب القايد المتحكم في كل تفاصيل حياتنا، والمتحكم لا نائب يحل محله، وولي عهده مشكوك في مستقبله أمام تنافس كتيب عائلة باب العزيزية على وراثة ليبيا. لكن ووفق جلسة العصف الذهني تلك برز للمحاضر أحد السيناريوهات القوية وكتب أحد الحدوس الوجيهة (حرب بين الأبناء؟!).

وفي تلك اللحظة برزت لدي من جديد فكرة الحرب التي كان يجهز لها أبي مخزن التموين منذ بداية الثمانينيات، دون أن تتطفل السريالية على هذا الاحتمال الذي لم يعد مستبعدا، خصوصا وأن الحرب ستكون أهلية هذه المرة، بينما استطرد المحاضر بقوله: من يملك الدبابات هو الذي سيسيطر على شوارع العاصمة. نقلنا إلى حيرة أخرى حيث لا نعرف من يملكها أو ما إذا كانت مقسمة بين كتائب الأبناء والبنت بشكل يخلق توازنا ويطيل مدى صراع الورثة على عرش المملكة الغامضة.

لقد ذهبت توقعاتنا في كل اتجاه وشطحنا بخيالنا كما طلب منا مدير الورشة، لكن توقع انتفاضة شعبية تسقط النظام في ليبيا لم يخطر ببالنا، وكان يحتاج إلى خيال سريالي لم يكن في حوزة تلك القاعة التي قتلنا فيها القذافي رمزيا. أما ثورة المعلومات الجديدة لم ننتبه لذخيرتها من الخيال الممكن لأننا مازلنا منتشين بانفتاح ليبيا عليها، ولم نستطع الابتعاد عنها بما يكفي لندرك أن هذا العالم الافتراضي الجديد قادر بكفاءة على أن يجعل من الافتراضي هو الواقع الحقيقي، وأن ينتصر لمن دافعوا عن فوضى السريالية بكونها مشدودة إلى الواقع بخيوط غير مرئية تكمن فيها جاذبية المذهب الفني الجديد.

حين اندلعت ثورة فبراير كان خطابا القايد وابنه يحذران الليبيين من حرب أهلية إذا لم يعودوا إلى بيوتهم أو إذا ما رحل القايد. وهذا لم يكن حدسا ذكيا لكنه تحصيل حاصل

حين اندلعت ثورة فبراير كان خطابا القايد وابنه يحذران الليبيين من حرب أهلية إذا لم يعودوا إلى بيوتهم أو إذا ما رحل القايد. وهذا لم يكن حدسا ذكيا لكنه تحصيل حاصل، فهما يدركان جيدا المنظومة التي صممت بهذا الشكل، والذي جعل من ليبيا قنبلة ستنفجر بمجرد أن يسحب الفتيل منها، وفتيلها كان هذا النظام الذي في النهاية يستطيع تأجيل الانفجار ولكن ليس منعه، لأن كل النظم الشمولية التي صممت منظومات حكمها ومجتمعاتها بهذا الشكل تعرضت لسحب الفتيل ثم الانفجار بكل تداعياته.

يذكر الكاتب الأرجنتيني ألبرتو مانغويل، في كتابه "يوميات القراءة" اقتراحًا سرياليًا فظًا، عندما كان الحتميون يشنون حربهم الضروس على المذهب الجديد الذي ينثر الفوضى، يحيلنا إلى مفهوم ملتبس للواقع المجنون في مخيلة الفن: "في عام 1930 اقترح أندريه بريتون بفظاعة، بأن الفعل السريالي الأكثر بساطة يتضمن النزول إلى الشارع، وفي يدك بندقية، وبأكبر سرعة يمكنك أن تسحب الزناد، تطلق النار عشوائيًا على الحشود". ومع الوقت تحول هذا الخيال المجنح وقتها إلى أخبار عاجلة أسبوعية، غير أن السيارات التي تدهس الحشود وفي داخلها شخص يحلم بالحوريات وهو يمضغ حوريات الدنيا تحت عجلات شاحنته لم يخطر ببال بريتون، أو أنه خطر ولكن خاف أن يودع في مستشفى المجانين لو نطقه.

أما نحن المتفرجين كنا ننفعل في البداية ونتفاعل مع أي حادثة حوادث مثل هذه، ثم أصبح الأمر يأخذ شكلاً اعتياديًا ويشكل جزءًا من يومياتنا، وأصبح الناس يحمدون الله إذا ما مات شخص ميتة طبيعية ويعتبرونه محظوظًا. هذا ما يشكل الرعب الآن، ويجعل من الحياة كابوسًا متصلاً، وهذا البرود الذي بدأ يعترينا مع ازدياد المآسي يهدد إنسانيتنا وشرطنا الأخلاقي.

كتب شاتوبريان، أنه في فوضى أحداث الثورة الفرنسية، طلب شاعر بريتاني كان قد وصل توًا إلى باريس أن يؤخذ في جولة في قصر فرساي. "هناك أناس" يعلق شاتوبريان "يزورون الحدائق والينابيع، بينما من حولهم تتهاوى الإمبراطوريات". كثيرًا ما يحيرني هذا الأمر.

أن التفاؤل كوصفة ضد الاكتئاب يجعلني أقول ــ في سري طبعا حتى لا أعكر صفو المتشائمين ــ هذا ليس برودًا لكنه نوع من المقاومة الغريزية

الناس هنا يتصارعون على الأملاك والأراضي ويبنون دون هوادة، يذهبون إلى الشواطئ والتبضع، بينما البلد تتهاوى من حولهم. غير أن التفاؤل كوصفة ضد الاكتئاب يجعلني أقول ــ في سري طبعا حتى لا أعكر صفو المتشائمين ــ هذا ليس برودًا لكنه نوع من المقاومة الغريزية، أو بمعنى آخر؛ تعلّق هيستيري بالحياة في مواجهة ثقافة الموت المطروحة بشدة منذ عقود وحتى الآن (منذ أن قال سبتمبر "الليبي عالموت مصمم" إلى أن قال فبراير" نموت نموت ويحيا الوطن" وهو في الحقيقة تأويل غير شافٍ للحيرة، لكنه محاولة لاستعادة الثقة بإنسانيتنا المهدّدة. هكذا يرتبك الكاتب أمام تغيرات مثل هذه، ويرتبك أمام ذاكرة حبره التي تفشل في أن تبرر له أي شيء مما يحدث الآن، يرتبك أمام حلمه القديم الذي سطره حيال فكرة التقدم الحتمية، يرتبك أمام خيال التاريخ الذي يتجاوز خياله، فتصبح الكتابة طريقة لتحسس الجسد للتأكد من أنه مازال دافئاً وعلى قيد الحياة.