Atwasat

أشجار الحرِّيق

محمد عقيلة العمامي الإثنين 27 أغسطس 2018, 10:16 صباحا
محمد عقيلة العمامي

عظمة الدولة من عظيمة رجالها. هذه حقيقة أكدها التاريخ. الرجال الحقيقيون، ينمون طبيعيا مثلما تنمو الأشجار الضخمة التي تعلو لتعانق السماء... صحيح أن ليس كل الأشجار مثمرة أوعملاقة، أو حتى مفيدة، ولكنها تنمو على كل حال.

زرع الطليان ذاك الشجر، الذي نسميه (الحرِّيق) بميادين بنغازي، ذلك الشجر القبيح، الذي كنا نسحق (ثماره) فوق أجساد الضعاف من الرفاق، فيظل يحك جلده، كالمجروب، طوال النهار. ولكن هذا الشجر مات، لم يعد يثمر (حريقا) .. صحيح أن بضع أشجار منه مازالت قائمة بميدان سوق الحوت، أو بشارع عمرو بن العاص ولكنها تحتضر.

لماذا لم يعد في بلادنا شجر حرّيق؟
هل لأن تراب بلادي لم يطق هذه الاشجار، فنبذها واختنقت وماتت؟ وهل بسبب (السبخة) التي قامت عليها مدنية بنغازي؟ من يدلني على شجرة حريق واحدة ما زالت تتنفس في بنغازي؟. ولكن لا يهم أن نعرف لِمَ لمْ تعش؟. غير أن الأكثر أهمية أن نعرف لماذا زرعته إيطاليا وتركت أشجارا أخرى أكثر جمالا، أو على الأقل ليست مؤذية؟

شجر الحرّيق خلفته إيطاليا لنا، ولم تخلف لنا مدرسة ثانوية واحدة باتساع ليبيا

شجر الحرّيق خلفته إيطاليا لنا، ولم تخلف لنا مدرسة ثانوية واحدة باتساع ليبيا. الدكتور وهبي البوري معاصر لزمن نهضة إيطاليا عندما كانت تستعمر ليبيا؛ يقول في سيرته أنه ترك البلاد لأن سقف التعليم كانت نهايته الشهادة الابتدائية بالنسبة لليبين. الاستعمار الإيطالي سيطر سيطرة كاملة استمرت ثلاثين عاما؟. ولا أعتقد أنه ترك لنا شيئا سوى بضعة مبان شيدت أساسا لإقامة ضباطه وحكامهم، وشجر الحريق.. وبالطبع المكرونة!. غير ذلك لم يترك لنا شيئا يذكر!.

ولماذا أقول لكم ذلك؟. لأن وزير خارجيتهم أعلن على الملأ أنهم أقدر من يتولى قيادة ليبيا، وقال عن الفرنسيين الذين يزاحمونهم على قيادة ليبيا أنهم مجرد مستعمرين. وأنا أتفق مع السيد (ميلانيزي) على أن فرنسا كانت دولة استعمارية، ولكنها تركت بمعظم مستعمراتها مدارس (الليسيه) التي أوصلت الكثيرين ليس لقيادة دولتهم فقط، وإنما للعالم!. لقد تركت مناهج تعليم تُعد من أقوى المناهج في تونس والجزائر وأيضا المغرب.

أنا لا أدافع عن فرنسا، ولكنني أقول أن الاستعمار الإيطالي كان أسوأ استعمار في العصر الحديث، ليبيا تكاد أن تكون من دون لغة أجنبية ثانية! ليس مثلما يقال بسبب نظام القذافي الذي منعها فقط، بل لأنه لم يكن هناك أساس قوي لأية لغة ثانية، مثلما هو الحال في المغرب العربي. تركوا لنا بدل العالم وصفة لطهي نوع واحد من المكرونة في حين أنه كان بحوزتي كتاب يتحدث عن 500 طريقة طهي لها!.

سوف تكون المعركة كلامية بين الطليان والفرنسيس، لن تكون معركة اقتصادية، وبالتأكيد لن تكون مسلحة، فالحروب الأوربية من حروب نابليون إلى بسمارك إلى العالميتين، علمتهم عدم الاقتراب منها لأنهم ذاقوا مرارتها، ثم توالت حروب أهلية كالأسبانية والهندية الباكستانية، واليابانية الصينية، والفيتنامية.. وأخيرا تلك التي نتجت عن تفكك الاتحاد السوفيتي فأكدت لهم مغبة هذه الحروب، التي كانت قد اشتعلت بنوايا قد تكون، أو لا تكون، طيبة.. ولكن بالضرورة تأذى منها الطرفان.

نحن نشعل النيران ونلوح بما يقودنا نحو حرب أهلية

نحن نشعل النيران ونلوح بما يقودنا نحو حرب أهلية، ذلك إن لم نكن قد (سخّنا) قليلا للشروع فيها رسميا. لدرجة أننا جعلنا الأطراف المتربصة، التي تدعى الديمقراطية وتتبجح بحقوق الإنسان تتدخل في شئوننا وتتظاهر بمصالحنا ومساعدتنا بالحليب المعلب والصابون السائل ولم نسمع أحدا منهم التفت إلى جامعة بنغازي نصف المدمرة بأسلحة هم من باعوه لنا، حتى أولئك الذين يرون أنهم الأقدرعلى قيادة ليبيا مازالوا يعتبرون أن ليبيا هي فقط طرابلس أو مصراته.

لا ينبغي أن نلوم أحدّا! نحن من يحاول أن (يعور) عينيه بأصبعه! نحن من أمسك بخيوط الأزمة في ليبيا، نحن من يعلن على الملأ عدم السماح بالتدخل الأجنبي، ونحن من فتح لهم مطاراتنا (العسكرية) وموانينا وجعلناهم يتطاولون علينا عند بقايا أشجار (الحريق).
بلادكم الآن مهددة بنوايا تعتقدون أنها وطنية وطيبة، ولكنها ليست كذلك. كل يدعى أنه يخاف على مصدر قوته من الضياع والنهب ووصوله إلى أيدٍ لا تريد الخير لبلادنا.. وكل يعتقد أنه لم ينل حقه من ثروات بلاده.. وكثيرون يعتقدون أن المنهوب ليس محسوبا. والكل يردد أن أمرنا يحل بالحوار والنقاش، ولكن وفق قناعته ورؤيته هو دون سواه.

والحلول كثيرة، ولا تحتاج إلاّ إلى عقلاء.. يعون جيدا أن الطريق المسدود في إيجاد هذه الحلول هو باختصار شديد فقدان أولادنا.. وبيوتنا ومدننا وموانينا. ولا يبقى لنا سوى جوازات سفر أصبجت مكروهة ومشبوهة، ولا تفيد في التسول للدخول بها إلى مدن العقلاء، الذين يعلنون صراحة أنهم أغلقوا موانيهم وبحارهم وهم يعون جيدا أنكم عاجزون عن غلق واحاتكم وبحور رمالكم.

فلننتبه إلى خطورة الأصوات المسعورة التي بدأت ترتفع من هنا وهناك

فلننتبه إلى خطورة الأصوات المسعورة التي بدأت ترتفع من هنا وهناك. انتبهوا ألاّ يغرر بكم.. وليتقِ الله، من يرى أن القوة في متناوله.. يتقِ الله في الثكالى والأرامل وأبناء شهداكم.. اتقوا الله في وطن قد يتغير اسمه وعنوانه.. هذا إن بقى منه شيء إن اشتعلت نيران فتنة بدأت أبواق قبيحة تنفخ في جمرها، فالنار لا تولد إلاّ نارا.. ولا تنتهي إلاّ رمادا.

وما خبث لا يخرج إلاّ نكدا.. وكذلك أشجار (الحرّيق).