Atwasat

دستور لاشي عليه

نورالدين خليفة النمر الأحد 26 أغسطس 2018, 10:03 صباحا
نورالدين خليفة النمر

يقوم الدستور من وجهة النظر السياسية بوضع القوانين والتشريعات التي تعمل على تحديد الهوية والطبيعة السياسية للدولة ونظام حكمها وطرائق إدارتها. لتفكيك التعريف بإثماره، وتسوير مناقشته، نلجأ مفهومياً إلى المنطق، فيما يمكن تسميته بالقضية الحملية المقسومة إلى الموضوع والمحمول أو المحكوم عليه والمحكوم به، وهي كل قضية تتكون من طرف أول يراد منه أن يكون موضوعا، وطرفٍ آخرَ هو ما يكون محمولا أي عرضا يمكن أن نطلق عليه اسم الدستور لجوهر هو مسمّى الدولة.

في تاريخ ليبيا الحديثة تمّ الأمر بالمفارقة. فالدستور سبق الدولة شكلاً، ولكن دولة الاستقلال 1951 ـ 1969 أكّدت ذاتها موضوعاً كان محموله الدستور، وعند التطبيق كان ذلك الدستور حبراً على ورق، ولايمثل إلا شكليات لا تتجاوز حدودها البروتوكولية. والملك كان الحاكم المطلق من خلال الأجهزة الحكومية التي تؤسس بإذنه. الليبيون الذين تمّ حينذاك باستعجال صياغتهم لأوّل مرّة في تاريخهم شعباً لم يعوا أهمية الدستور، و كل النقود التاريخية توجهت إلى التشكك في أن هناك من غير المختصين الفوضوليين من اهتم بمجرد تقليب صفحاته. وفي هذا المناخ من التغييب الذي تمدّدت فيه الأبوية البطرياركية للملك، وتقلّصت مساحة التعاقد بين الأمير وشعبه، أو بالأحرى رعيّته، حدث انقلاب العسكر عام 1969 وفسخ دستور دولة الاستقلال الشكلي واستبدل به دستورية الثورية حسب الموروث الانقلابي للضباط المصريين الأحرار عام 1952 فيما سمّي بالعهد الثوري الليبي وحتى 1977 بإعلان مايسمي بقيام سلطة الشعب حيث لم يعد ثمة داعٍ لا لدستور ولاحتى إعلان دستوري ذلك الذي أرهص للدكتاتورية في تجليها الأتوقراطي الذي كرّسنا مقالات عدة لتجلية فجاجة غرابته وعبثه! حيث صار الكلام عن الحاجة للدستورمحلاً للتندر وجس النبض تجاوباً مع الضغوطات الدولية للإصلاح التي تعرّض لها نظام السلطة الشعبية المُزيّف بالأتوقراطية في مناسبات على فترات من آواخر عشرية ثمانينيات وتسعينات القرن الـ 20 ومساعي إعادة إدماجه في النظام الدولي بداية الألفية الثالثة ومساعي التوريث العائلي للسلطة التي حسمت نهايتها الثورة الشعبية 2011.

في ثورات الربيع العربي 2011 التي سميّت بالثورات دون ثوّار قفز الإسلاميون الليبيون الذين انتهزوا غياب القوى المدنية والديمقراطية على مقاليد الأمور في المجلس الوطني الانتقالي، وأُشيع أنهم لجأوا كانقلابيي العسكر عام 1969 هذه المرّة أيضاً إلى مصر ولكن إلى حكومة الأخوان المسلمين، حيث صاغ مستشاروها القانونيون دستوراً مؤقتاً للثورة الشعبية الليبية.

دستور الانقلاب الاسلامي الذي أصدره المجلس الوطني الانتقالي في 3 أغسطس 2011 كان المسمار الأول الذي دُّق في ظهر ثورة 17 فبراير 2011، وبيّن ملامح الصراع المجتمعي الذي نشهد انقساميته المميتة منذ أحداث فجر ليبيا عام 2014. ومأزقه عدا المؤقتية، أنه انعكست فيه حالة الصراع التي تجلت بشكلٍ سلبي على التشريعات. وهو ما اتضح من خلال نصوصه حيث اتسمت مضامينها بالتناقض نتيجة الصراع بين القوى المصطنعة لتختلف. المثال على ذلك المادة ( 30 ) التي تحدد بموجبها شكل وطبيعة النظام السياسي الليبي الانتقالي ومراحله، وخارطة الطريق لعملية الانتقال إلى الدولة الدستورية. والتعديل الدستوري الذي أجراه المجلس الانتقالي وتقرر بموجبه إنشاء لجنة مكونة من 60 عضواً بدلاً من الهيئة التأسيسية، أدى إلى سلب المؤتمر الوطني العام المنتخب شعبياً عام 2012 صلاحياته الدستورية، وأسند عملية صياغة الدستور إلى جمعية الستين. وبسبب الرفض الذي واجهه هذا التعديل من قبل العديد من الأطراف – وخاصة مناطق شرق ليبيا التي طالبت بتساوي المقاعد ما بين طربلس، وبرقة وفزان – قام المجلس الوطني الانتقالي بتاريخ 6 يوليو 2012، وقبل إجراء انتخابات المجلس الوطني بيوم واحد بإحداث تعديل آخر على المادة (30) فيما يتعلق بتشكيل لجنة الدستور تجاوباً مع ضغوط جهوية مارسها إقليم برقة ودعاة فدراليته الذين هددوا بالانفصال.

لاحظ المراقبون، منذ البداية أن الهيئة الدستورية، فيما يبدو، تحتاج إلى فترة أطول،من الـ "120 يوما" لإعداد مشروعها في صورة وثيقة مصيرية يحترمها الجميع، ويدينون لها بالولاء، وتُرسى بمقتضاها مؤسسات الدولة، وتؤسس عليها قوانينها. و لكن الذين اختصروا تلك المدة الزمنية إلى هذا القصر ربما كان في اعتبارهم وجود دستور سنة 1951 ليكون أساسا للعمل، فيكفي إجراء بعض التعديلات وبعض الإضافات وبعض التغييرات فيه، لمعالجة بعض المستجدات، حتى يكون مسودة صالحة لدستور هذه المرحلة.

إن مشروع الدستور الذي أعدته صفوة منتخبة من الشباب الليبيين المتخصصين والمؤهلين. واستغرقت في إعداده ثلاث سنوات لم تأتِ رياحه بشهية سفن المناوئين لمشروع الدستور الذي مازلوا يوجهون بوصلتهم نحو مفاهيم أخرى عائمة، غامضة، مشوشة كالقول إن مشروع الدستور «كارثي» أو «مسوَّدة معيبة» أو مسوَّدة «ستدخل البلاد في حرب» أو «إنها تُرسخ المركزية» أو إنها «تؤسس للدولة الدينية».

المؤرخون المحايدون الذين عاصروا التجربة الدستورية الليبية التي ألمحنا آنفاً إلى محطاتها يرون أن مشروع الدستور المطروحة صياغته اليوم على الاستفتاء يستمد جدارته بأنه خاطب مشاكلها الطارئة التي حدثت نتاج ثورة 17 فبراير 2011 والفراغ الذي ترتب عن تغييب الدولة ومؤسساتها، بل حاول أن يدرس بعناية التجاوزات والتناقضات و أن يجد حلولا لها، فيقدم حلا وسطا حيال المطالب المتناقضة بين خياري الوحدة والفدرالية، كما نظر للأولويات والتخوفات فاتخذ التحوطات التي رآها ضرورية، فدستر بعض القضايا التي كان بالإمكان الاكتفاء بتقنينها، وترك بعض القضايا للتقنين التي كان يتوجب دسترتها، وحصن بعض المواد لأهميتها حتى لا يتم تفريغها من محتواها والتلاعب بها عند التعديل. و في جميع الأحوال لابد من عرضه على الاستفتاء بحكم القانون قبل الانتخابات، وبدون شك فإن تغييبه للإبقاء على المؤقتية كواقع الحال، أو طرح دستور عام 1951 الذي لاشئ عليه من المحمولات التي تحدّد موضوعه كما يحاول البعض، مراعاة لهذا أو لذاك، أو لأي ظرف من الظروف، سيُدْخِل البلاد في دوامة من الصراع سيكون لها، بدون شك، مردودها السلبي على بناء الدولة وإرساء دعائم مؤسساتها وعلى حياة الاستقرار التي تنشدها الغالبية الساحقة من المواطنين.