Atwasat

فراعين وسحرة

محمد المغبوب الثلاثاء 21 أغسطس 2018, 12:17 مساء
محمد المغبوب

يصر مدير مؤسسة مالية على البقاء في منصبه ولا يعترف بقرار ينزعه منه. معتبرا أن سلطته تمتد إلى حقه في الاحتفاظ بكرسيه الذي يبيض له عبر شهور السنة مئات الآلاف من الأوراق النقدية بكل الألوان مع متع ومتاع السفر الأسبوعي، والعلاج بالخارج والسيارات وغيرها. محتفظا بوجاهة المنصب وأمره التنفيذي مع حلقات من المجاملة والنفاق.

يرفض هذا المدير التزحزح عن كرسيه السمين حيث سيفقد حياة الترف والفخفخة وحتى وفرة رنات هاتفه النقال، فهو يظن أن المؤسسة وما لها له يتصرف فيهما حيث يشاء، كما أنه أحد أركان منظومة هي شبه دولة يحسبها ولا يمكن إلا أن يكون كذلك خاصة بعد فبراير إذ هو يُتبع ولا يَتبع، وما من أحد غيره في المنظومة ذاتها له الحق بإقالته من منصبه ويجزم أن القضاء سينصفه من قرار جهة لا يتبعها إلا بالعمل معها لا تحت إمرتها.

مدير غيره يفعل ذلك ويخبط عشوائيا هنا وهناك لعل إحداها تصدف معه عبر أدوات له يظنون أنهم سيسحبون بسلسلته إذا ما فشل في البقاء على كرسيه السمين أيضا. حالة طرأت على سطح الوظيفة العامة التي صارت ترفا وتكريما للبعض دون غيرهم، يسعى أحدهم عبر وسائل عدة إلى منصب هو يدرك تماما أنه أكبر من قدرته على الجلوس عليه ويراه في مرآته قد صار ركنا من أركان الحياة العامة لا يستقيم أمر بدون وجوده، وأنه القادر على المشاركة في اللعبة والتفنن فيها.

الأهم من ذلك أن العالم مازال يعمل ضمن حلقات غير مرئية تماما وتشابكاته وتداخله على نحو تشاركي تقوده المصلحة

هم، أعني من يحسبون ذلك، لا يجهلون أشياء كثيرة أهمها أن حالة الديمومة مستحيلة، وأن الغرور مفسدة والمال الحرام مهلكة وأن موت أحدنا يسكن داخله، وأن العزة لله وللرسول كما أن سرعة الوصول تساوي ضعف سرعة الهبوط.

لكن الأهم من ذلك أن العالم مازال يعمل ضمن حلقات غير مرئية تماما وتشابكاته وتداخله على نحو تشاركي تقوده المصلحة وتؤثر فيه عوامل خارجية بعلاقات تتجاوز حدود البلاد تسيرها منظومات لم يتخل عنها الشيطان الرجيم، فأينما وُجد المال كان شيطان السياسة حاضرا يعمل بهوى الساسة لوقت محدود فقط وهكذا تكون الانقلابات مفاجئة للبعض فيما ينتظرها البعض الآخر، وعلى هذا الأساس سقطت إمبراطوريات فلم يعد خاصة بعد نظام العولمة التي أسقطت الحدود والهوية نظام يعمل أحاديا، حتى أن العاطفة تذبذبت فالصديق اليوم عدوك غدا وعلى ذات النمط أيضا لا يتم بطرف واحد فقط تفككت الجمهوريات الروسية وسقطت معها المنظومة الاشتراكية، وقامت الحرب لتفكك يوغسلافيا وجر جثمان تشاوسيسكو وأعدم صدام وقامت الثورات في تونس كإختبار وفي مصر للتأكيد ثم ليبيا وسوريا واليمن كعمل حقيقي مضمون النتائج وخرجت باقي الأنظمة العربية في بلاد المغرب الأقصى وفي الجزيرة والخليج ، مع بض الإرهاصات في تركيا وإيران نراها اليوم تتفاعل.

موظفونا حتى على المستوى الأعلى يكتفون فقط بتوقيع الأوراق الرسمية كمن يقرأ نصا لا يفهمه، ولا يدركون أن للعالم ألعابه وفي جراب حاويه الكثير، كما أنهم لا يسلمون أن كيد الساحر لا يفلح، وأن عصا موسى حية عظيمة كما أن التداول سنة الله في خلقه.
أتمنى على كل من جلس على كرسي أن لا تأخذه فتنته كي لا يهوي في هوة سحيقة، وإذا كان الأمر من أن الوطن غنيمة فليأخذ ما تحصل عليه وينفذ بجلده إذا ما أفلح وأسعفته الحظوظ.

مثله ومثل غيره وغيرهما كثر حين يقومون بالعند إنما يفردون مساحة للفراغ، وأخرى للعب الشياطين وعلى أي وجه فالنزع سيرورة لصيرورة أخرى، وكل ذي منصب هو منزوع عنه وموقوت بالساعة والدقيقة.

يبدو لي أن التسليم أسلم فهو يحفظ ماء الوجه وقد يحفظ ما سكن في الحسابات الجارية، ولو لم يتم نزع من كان قبلك فلم يكن منحك إياه وهكذا دواليك فالوسائل تبرر الغايات السليمة وعبر عملية منظمة لا تخرج عن حدود منطق الأشياء.
الحالة الراهنة للبلاد لا تستوجب الشد والجذب والتناكف فمصائر البسطاء مرهونة بها وتتعلق بالمعيش اليومي للناس ولو أن كل من جلس بقي في مجلسه فما تحركت خطوات على الطريق والدنيا حركة وليست سكونا.

ما نشاهده من تعنتات، وحالات عنجهية وعناد أراها من عمل الشيطان تفسد محاولة الشرفاء والمخلصين في بناء الدولة

إن ما نشاهده من تعنتات، وحالات عنجهية وعناد أراها من عمل الشيطان تفسد محاولة الشرفاء والمخلصين في بناء الدولة والتسريع بقيامها، فلا يمكن أن يعمل الكثير من أجل شخص لم ينزل من السماء رسولا وليس له بركات الصالحين.

في ليبيا لم يجعل المنصب من الموظف العادي (بارونا) أو (سيرا) أو (دوقا) أو (نبيلا) أو (إقطاعيا) بل حقق الحسد والحقد وكثرة المتزلفين والغاضبين فنحن نرى لا الكفاءة والا القدرة ما أتت بصاحبه إليه، لهذا أي منا يرى أنه أحق به، كما أنه لم يحقق سعادة لأحد بل الخوف والحذر والترقب، وأنه جالب لمال الحكومة وهو لدينا سحت وحرام، وفي تراثنا الشعبي نحسب أن المال لا يجعل من صاحبه شريفا، ونحسب أن الرجل لا بماله ومنصبه بل بحزمة أخلاقية تؤطره وتجله في عيون الناس.

الأمر أكبر وأخطر حين يمد الساسة فترة بقائهم في السلطة، وحين يريد أحدهم أن لا نرى إلا ما يرى، كفرعون جديد، لم ينفعه السحرة بشىء وانتهى في لحظة كلمح من بصر بفعل غروره ومحاولة تفرده.