Atwasat

منصور رشيد الكيخيا شيخ الاختفاء القسري: زنزانتان متجاورتان

محمد المهدي الفرجاني الإثنين 20 أغسطس 2018, 12:07 مساء
محمد المهدي الفرجاني

بعد أن تمت عملية الاختطاف من القاهرة إلى طرابلس، طُلب من العناصر المساعدة في تنفيذ الخطة الانسحاب تدريجيا من القاهرة والتسرب بهدوء إلى ليبيا عن طريق دولة ثالثة، وكان ذلك من ضمن خطة العملية التي أُعد لها من البداية. وكان للتنفيذ بالضرورة نهاية.

غادر منصور برفقة العقيد محمد سالم نعامة عبر الحدود المصرية الليبية في سيارة مراسم محروسة بسيارتين أخريين في بهيم ليلة السبت الموافق 11 ديسمبر1993، وكان منصور قد حجز فعلا مقعده بالطائرة المغادرة من القاهرة إلى باريس يوم الأحد 12 ديسمبر1993. كان منصور قد خُدر بالكامل من قبل أن ينقل إلى سيارة المراسم، التي انطلقت به وهو غائب تماما عن الوعي.

هناك من كان يقول أن السيدين عبد الرحمن العبار ومفتاح بوكر كانا في قرية امساعد ينتظران سيارات المراسم. وهذا الأمر عار عن الصحة، فلم يكن الرجلان مكلفين بشيء من خطة العملية، ولم يكونا في منطقة الحدود الليبية المصرية، وليس لهما علم بخطة اختطاف منصور الكيخيا، ولم يشاركا فيها. الليبيون من غير الجهاز، لا يشاركون في مثل هذه العمليات، وهذا ينفي تماما الإشاعة القائلة أنهما كوفئا بمناصب عقب انتهاء العملية. لم يكن أحد على الحدود الليبية في استقبال سيارات المراسم سوى عناصر من مكتب طبرق التابع لجهاز الأمن الخارجي لإنهاء إجراءات دخول السيارات وركابها من رقابة الجوازات والجمارك الليبية.

بعد انتهاء الإجراءات، تنفس العقيد محمد سالم نعامة الصعداء، وانطلقت سيارات المراسم نحو قاعدة جمال عبد الناصر بطبرق حيث كانت طائرة (جت ستار) في انتظار الصيد الثمين لتنطلق به إلى مطار طرابلس العالمي، ومن هناك إلى فيلات أبوسليم حيث أودع منصور في محبسه، بجوار العقيد يونس بلقاسم الذي تم اختطافه هو الآخر من تونس إلى طرابلس، ووضع في السجن من دون محاكمة، وتجاور الرجلان في زنزانتين.

وبعد أيام رقي العقيد محمد سالم نعامة إلى رتبة عميد تقديرا لجهوده في تنفيذ هذه العملية، وأخبرني أنه من هناك عرف أن أيامه معدودة لأنه يعرف أكثر من اللازم، ليس فقط عن هذه العملية ولكن عن الكثير من العمليات المشابهة، ولم يكن من الصفوة الأمنية المكلفة، التي تضم اللواء الخويلدي الحميدي، وعبد الله السنوسي، وموسى كوسه، وسعيد راشد، وعزالدين الهنشيري، والتهامي خالد، وغيرهم؛ هؤلاء هم كانوا يقررون المسألة الأمنية في ليبيا وهولاء هم الحلقة الأمنية العليا في ليبيا التي تقرر تأمين الثورة وقائدها، وكانت تجتمع مساء كل يوم للتباحث والتشاور فيما يخص المسألة الأمنية.

ولكي تكتمل خطة الخداع، ويستبعد آخر خيط قد يكشف العملية، وتتورط ليبيا رسميا فيها، أصدر عبد الله السنوسي تعليماته إلى المدعو يوسف صالح نجم أن يذهب إلى فندق السفير صباح يوم 12/ 12/ 1993 ويسأل عن منصور، وبعد أن يخبروه أنه ليس موجودا يترك له رسالة باستقبال الفندق تؤكد حضوره لموعد سابق متفق عليه، وتبعد الشبهة عنه إن سئل في أي تحقيق قد يتم لاحقا بشأن اختفاء السيد منصور الكيخيا، باعتبار أنه آخر من التقى به، وهذا ما حدث بالفعل! إذ ادعى لزوجة منصور أنه قابله في الفندق الساعة التاسعة والنصف وغادره قبيل منتصف الليل وهي ليلة اختفاء منصور إلى الأبد. يوسف نجم كان كاذبا لأنه رافق منصور إلى البيت الآمن!

لقد أبدت السيدة بهاء العمري، زوجة منصور الكيخيا شكوكها للنيابة العامة المصرية في واقعة الاختفاء، وأن يوسف نجم بالنسبة لها محل شك بأن له دورا في مسألة اختفاء زوجها، ومنذ 26 أبريل 1994 وبأمر من النيابة العامة طُلب من المدعو صالح يوسف نجم أن يمثل أمام النيابة العامة في القاهرة للتحقيق معه في واقعة اختفاء منصور الكيخيا، وبناء عليه كلفت جهاز أمن الدولة، الذي كان يترأسه في ذلك الحين اللواء الحبيب العدلي وذلك بوضع اسم يوسف صالح نجم بالمنافذ البحرية والجوية والبرية والقبض عليه بمجرد وصوله للتحقيق معه أمام النيابة العامة المصرية وسماع أقواله في واقعة اختفاء منصور رشيد الكيخيا من القاهرة إلى جهة مجهولة باعتبار أنه آخر شخص قابل منصور رشيد الكيخيا.

الحقيقة، التي يجب أن تعلن هي أن نظام القذافي لم يكن صادقا أبدا في تعامله مع المعارضة أو المعارضين، خصوصا "التائبين"، فبعد أن يقوم بإفراغهم من كل المعلومات التي لديهم، وهو أمر يحتاج إلى العديد من الجلسات الاستدلالية والإجابة على الأسئلة التي تعري المعارضة وارتباطاتها وأشخاصها والقادة منهم وأصحاب القرار ووسائل التمويل والمناهج الإعلامية لها. والأهم التعرف على التفاصيل المملة على ارتباطاتها مع بعضها البعض، وبالأجنبي صاحب الأرض والحماية والرعاية المالية وكيفية التصرف فيها، وإن أمكن معرفة أوجه الصرف.

وكان التائبون يدلون بكل ما يعرفونه من معلومات، ولكن أجهزة النظام الأمنية لاحظت أنهم لا يملكون تلك المعلومات الدقيقة التي تحتاجها تلك الأجهزة، لتمكنها من التعرف أكثر وبدقة على المعارضة والمعارضين، وتثرى أرشيفها وسد فراغها ونقصان معلوماتها، ويبقى دائما عدم الاكتمال، لأن كل من حضر إلى ليبيا منهم كتائب لم يكن، أبدا من الصف الأول، أو قياديا ولذلك صنفوا جميعا معارضة من الدرجة الثالثة أو الرابعة، ولكن الأهم بالنسبة للنظام في ليبيا هو إفراغ المعارضة من عناصرها مهما كانت درجتهم أو أهميتهم.

وتجربتي الشخصية عندما كنت أحد العناصر الأمنية هي التي تجعلني أدلي بشهادتي في هذا الشأن، فمن بعد أن تولت لجان القذافي الثورية الشأن الأمني في الداخل والخارج أصبح للمهنيين في هذا الشأن وضع حرج للغاية، والمخلصون لأمن الوطن وليس أمن قادته لم يستطيعوا الاستمرار واضعين نصب أعينهم أن الاستقالة هي في نظر قادة الشأن الأمني رفض للثورة وأمن قائدها وبالتالي تظل مهددا في أمنك الشخصي.

لقد أيقنت أن مواصلة عملي كضابط أمن مؤهل بمهنية تحت إمرة من يزايدون برأس النظام على الوطن أمر مستحيل، فتقدمت باستقالتي. وأنا الذي لا أعرف مهنة غير ما تعلمته ومارسته، وكان إصراري متصلا على الرغم من عراقيل كثيرة وضعت أمامي، فما حدث لي كان أكبر بكثير من هذه العراقيل، لأنني طعنت من الخلف من جهاز أفنيت فيه زهرة شبابي وعملت فيه بما يرضي ضميري ووطني وأمن عائلتي الذي لا أقبل أبدا أن يخدش. سوف أتناول بعضا مما تسبب في استقالتي ولعل ما حدث للسيد يوسف عقيلة يبرز ذلك كله، وهذا سوف أتناوله في الحلقتين القادمتين.