Atwasat

ذاكرة مكان..النخلة «العوجة»

صالح الحاراتي الإثنين 20 أغسطس 2018, 12:05 مساء
صالح الحاراتي

السماء ملبدة بالغيوم، والشمس احتجبت وراءها حتى صار أول النهار يشابه ساعة الغروب وأول الليل، وخز خفيف في أرنبة الأنف والأذنين، بفعل الجو البارد الذي يجعل هواء الزفير يخرج كالبخار. الصحو مبكرا للذهاب إلى المدرسة أمر صعب في ذلك المناخ.. الإفطار في غالب الأحيان عبارة عن قليل من زيت الزيتون وقطعة خبز مع كوب من الشاي.. روتين الانطلاق إلى المدرسة التى تبعد بضعة كيلومترات، يبدأ بإشارة الانطلاق من خلال سماع النداء الأول من جرس المدرسة الضخم!

صوته يتردد صداه بوضوح تام نظرا لعدم وجود مبان مرتفعة في مدينتنا.. كانوا يسمونه الناقوس وهو عبارة عن (الإطار الحديدى لعجلة سيارة نقل كبيرة معلق فى شجرة ضخمة ويقوم «بواب بالمدرسة وهو أصم وأبكم» بالطرق عليه بقادوم كبير)!!. فى الطريق ألتقي بزملاء الدراسة من أبناء الجيران ونترافق، ونحن نفرك أيدينا وننفخ فيها دفعا للبرد القارص..

البرد لا يكفيه ذلك الإفطار المتواضع ولا يسد رمقا.. فكنا نمر على مخبز لنشتري رغيف خبز «فردة قرش» ثم يأتي الكرم من الحاج محمد الذي صرنا نشبهه بحاتم الطائي عندما نسترجع ذكرياتنا، كان ذلك الرجل الطيب مشرفا على العمال في «معصرة زيتون».. كنا نقول له صباح الخير يا عمي الحاج.. فيبتسم ويشير إلينا بيده أن تعالوا يا أولاد، نهاركم مبروك.. ويأخذ كل رغيف فيشقه نصفين ويسكب بداخله زيت الزيتون «الاوريجنال» وابتسامة عريضة تملأ محياه وهو يحثنا على الاجتهاد في دراستنا.. كان رجلا خيرا رحمه الله..

كان أحد الزملاء يحدثنا أنه أحيانا يذهب إلى نخلة صغيرة في طريق المدرسة بها ميل يساعده على تسلقها بسهولة لكى يلتقط بعض ما تبقى بها من تمر الخريف المنكمش «مكرمش» وكان يتغزل فيه ويقول أنه لذيذ جدا.. بل يمعن فى وصفه قائلا؛ أحلى تمر هو تمر «النخلة العوجة».. لم نصدقه.. وقلنا له غدا نجرب ما تقول.. في اليوم التالي حدث أن مررنا بالنخلة المائلة، أشار إليها وأسرع بخطاه مبتعدا عنا ومتجها إليها وتسلقها بكل سهولة.. وأخذ يرمي لنا بشيء من أُكلها.. يا الله كان لذيذا فعلا.

وأنا أتفحص بعض الصور التذكارية القديمة التي كانت تحسب يوما ما أنها (كروت بريدية) يتبادل الناس إرسالها بينهم كوسيلة تواصل في ذلك الزمن؛ وجدت صورة لمحت فيها وتعرفت على تلك النخلة وتذكرت ما حدث يومها.... وما حدث فيما بعد لمعمار تلك المنطقة من المدينة وماذا فعل الزمان بها!! معظم هذه المنطقة من المدينة القديمة الآن تم هدمه وقيل «لأجل التطوير» ولم يحدث لا تطوير ولا تعمير إلا ما تم بجهود فردية!. النخلة «العوجة» ليست بمفردها، فالرصيف على جانبي ذلك الشارع الممتد حتى البحر مزروع بكامله على مسافات متقاربة بالنخيل وكانت البلدية والحرس البلدي يكلف من يعتني به..

وفي هذا الشارع تقع الكنيسة والمركز الثقافى والمستوصف ومجمع المحاكم وغيرها من المبانى. صاحبتنا النخلة «العوجة»، تقع بين مبنى الكنيسة و مبنى له قبة كبيرة، أبيض اللون يسمى(الحمام)، ولا أعرف لما سمي بذلك، والأغلب أنه حمام تركي واستمر إلى أن تمت إزالته لاحقا. فى نهاية الشارع الذي فيه بيتنا في الجهة الأخرى، حيث يتقاطع مع شارع يصل إلى البحر.. هناك ساحة بين المبنيين وتشمل الشارع في بدايته..

وكان هناك حائط جانبي في الساحة تعرض عليه وبشكل دوري أفلام وثائقية كنا نسميها (سينما بلاش) لأنها من ترتيبات «الحكومة» في ذلك الوقت أذكر منها فيلم رابعة العدوية وأفلام وثائقية من إنتاج وزارة الإعلام تتحدث عن نشاط الحكومة وإنجازاتها. في الحديقة المقابلة واسمها حديقة البلدية، عندما كبرنا وصرنا في المدرسة الثانوية، تغير نمط الحياة سريعا.. كنا نلتقي مع الأصحاب ونجلس على كراسيها الاسمنتية تعبيرا عن اننا شباب المدينة الذين يتذوقون الجمال وأننا كبرنا بما يكفى لنجلس ونتجاذب أطراف الحديث على كراسي الحديقة كالكبار، ونتذكر سويا ذكريات الطفولة، النخلة «العوجة» والحاج محمد ومعصرة الزيتون ونمط الحياة البسيط.