Atwasat

الجمعة 9 أغسطس 1940 .. وما بعده

سالم الكبتي الخميس 09 أغسطس 2018, 03:11 مساء
سالم الكبتي

التاسع من أغسطس، يوم لليبيا التي تكاد تنساه، ليبيا التي تهمل الإيجابيات في تاريخها الطويل ولا تجيد الإفادة منها بأي شكل من الأشكال. ثمانية وسبعون عامًا على تكوين الجيش السنوسي الذي ظل لاحقًا نواة لانطلاق الجيش الليبي بالكامل.

حين اندلعت الحرب العالمية الثانية في أول سبتمبر 1939 وجد الأمير إدريس من خلالها فرصة ملائمة للعمل الوطني بصورة أشمل، فدعا اثنين وخمسين من مشائخ وزعماء الليبيين المقيمين في المهجر للاجتماع في منزله بالإسكندرية في شهر أكتوبر من العام نفسه. وتزامن الاجتماع مع أيام شهر الصيام المبارك وتشاوروا في حالتهم الاستقبالية وأكدوا ثقتهم جميعًا في شخصه ووقَّعوا على وثيقة هذا اللقاء التاريخي التي كان من أهم ما ورد بها.. «تكوين هيئة منتخبة منهم شورية، مرتبطة به ومربوط بها، وأن يعين وكيلاً له يقوم مقامه في حالة الغياب أو المرض». ذلك ما تؤكدة المصادر الموثقة وذات الصلة.

ومع التواصل واغتنام فرصة قيام الحرب وتبادل الآراء مع كل الأطراف التقوا في اجتماع ثانٍ بمنزل الأمير إدريس في القاهرة يوم الجمعة 9 أغسطس 1940 وقرروا التحالف مع الدولة البريطانية لتحرير بلادهم.. ومع تباين وجهات النظر وظهور بعض الاختلافات والاعتراضات حوله.. فإن ميثاق 9 أغسطس وُقِّع بحضور أربعين زعيمًا وطنيًّا من أنحاء ليبيا كافة شاركوا في الاجتماع التاريخي واعتبر رغم التباين والاختلاف خطوة في الاتجاه الصحيح ونصرًا وطنيًّا في كل الأحوال ورهانًا صائبًا على «الجواد الرابح».. بريطانيا. فليس ثمة حل آخر.. أو مَخرج آخر وسط متاهة الطريق وظلام الحرب في تلك الأيام. ليس هناك مفر.. عدو خلفك وعدو أمامك.

عرف هذا الجيش في نواته الأولى بعدة تسميات.. جيش التحرير.. القوة العربية الليبية.. الجيش اللوبي، لكن تسمية الجيش السنوسي غلبت عليه

كانت تلك بداية لمتابعة النضال الوطني الذي توقَّف في الداخل بانتهاء المقاومة في وجه الاحتلال الإيطالي وأولى الخطوات في المهجر نحو توحيد الصفوف والتحرير، ثم الاستقلال. تشكَّل الجيش نتيجة للاجتماع المنوه عنه بعد أن بذل المشائخ والأعيان الذين تهمهم المصلحة الوطنية جهودًا مضنية في تجنيد الشباب الليبي والرجال القادرين على حمل السلاح من أبنائهم وأقاربهم ومعارفهم، وصار هذا الجيش خطوة مهمة ومتقدمة في سبيل تحرير البلاد وقد تكوَّن من ثلاث كتائب أو «أورطات» ضمت في مجموعها ما يقارب أحد عشر ألفًا وتسعة وسبعين جنديًّا وستة وتسعين ضابطًا «وفقًا للسجل الرسمي للجيش» من الليبيين، إضافة إلى أفواج من المتطوعين من أفراد من قبائل أولاد علي والسودانيين والمصريين والفلسطينيين الذين تعاطفوا مع القضية الليبية، كما أُلحقت به مجموعات من الأسرى الليبيين الذين أُطلق سراحهم بتدخل من الأمير إدريس كانت إيطاليا قد جندتهم للقتال ضمن قواتها المتقدمة نحو مصر في معارك سيدي براني والعلمين خلال الحرب.

عرف هذا الجيش في نواته الأولى بعدة تسميات.. جيش التحرير.. القوة العربية الليبية.. الجيش اللوبي، لكن تسمية الجيش السنوسي غلبت عليه واتخذ من موقع «الكيلو 9» في الطريق الصحراوي غرب القاهرة مكانًا لمعسكره وتدريباته، إضافة إلى مكتب للجيش في جاردن ستي بالقاهرة ينظم إدارته وشؤونه وما يتعلق بأفراده وضباطه كافة، تولى أمره السادة إبراهيم السنوسي والصديق الرضا وعمر فائق شنيب.. وأخلص جل من انتسب إلى الجيش بتضحيات كبيرة في العطاء من أجل تحرير بلاده بمساندة من أطقم التدريب البريطانية والليبية ذات الخبرة السابقة أيام المقاومة ضد الاحتلال الإيطالي.. وكان بعضهم قد ترك دراسته في الأزهر، وأمور تجارته ونشاطة الخاص، ومشاغل الأسرة واتجه نحو القضية الوطنية، ليبيا، وأسهم هذا الجيش بالقدر المتاح في عمليات حربية منها حصار طبرق الشهير العام 1941 ونفذ الكثير منها داخل الأراضي الليبية المحتلة خلف خطوط العدو بنسف بعض المواقع الحيوية وقطع خطوط الإمداد والتزويد بالمعلومات وأعمال الاستخبارات في القرى والمدن وغير ذلك، فيما شهد القادة العسكريون والإنجليز لأفراده بالشجاعة والإقدام في أحاديثهم ومذكراتهم.

وتميز الجيش بزية الخاص وبنظام الأرقام العسكرية والرتب وأئمة ورجال دين، ودفع من منتسبية أعدادًا كبيرة من الشهداء والأسرى والمفقودين واُختيرت مجموعة منه للتدرب على أعمال البوليس والأمن في القدس وإريتريا كانوا أيضًا نواة رئيسية لتشكيلات الأمن لاحقًا في ليبيا.

وفي جانب موازٍ آخر مهم شاركت القوات الليبية التي نظمها السيد أحمد سيف النصر من أبناء القبائل الليبية المهاجرين في تشاد في الدخول إلى مناطق فزان وتحريرها مع القوات الفرنسية.. وبذلك توافق المشروع الوطني بين كل الأطراف الواعية بالمسؤولية ومستقبل الوطن التي ارتفعت عن الحساسيات والمصالح الذاتية والتقت على التضحية بكل رجولة ونكران ذات ومصداقية لتخليص ليبيا من كوارث الاحتلال. وبالطبع كان الأمير إدريس قد مهد أيضًا لتلك الأمور مع الزعماء المقيمين في المهجر خارج مصر أيضًا من ذوي الماضي الوطني المشرف.. في الأردن وسورية.

ذلك الجيش.. النواة كان عنوانًا للوحدة الوطنية في تلك الظروف.. أيًّا ماكانت النتائج.. سلبية أم إيجابية.. وأيًّا ما كانت نقاط الاختلاف والتقارب. كان باختصار نقطة انطلاق لجيش ليبيا بإطاراته الحربية وكوادره وما يتعلق به من تفاصيل عقب الاستقلال العام 1951.

مداخل تاريخية
الواقع، في منظور تاريخي قديم، ظل التاريخ الحربي لليبيين يتحدد دائمًا في المبادرة والشجاعة والفروسية سواء على المستوى الشخصي أو الجماعي «العائلة - القبيلة».. سكان الأرض الذين واجهوا الإغريق. وكان هناك شيشنق الذي غزا مصر وحكمها.. والفراعنة الذين استعانوا بالليبيين الشجعان في حروبهم.. وسبتيموس الذي فتح روما.. وهنيبال والحروب مع نوميديا.. والعربات الحربية التي تجرها الخيول لقبائل الجرامنت.. ثم البحرية العسكرية الليبية أيام يوسف باشا القره مالي.. الإتاوات والمعاهدات.. والمعارك. ومحمد علي باشا وابنه إبراهيم واهتمامهما بأبناء القبائل الليبية وبسالتهم في حروبهما خارج مصر ونقطة سلبية «التنازع القبلي المحلي» الذي ينشأ لأتفه الأسباب أو أكبرها أكسب أبناء تلك القبائل خبرة قتالية أيضًا!!.

وفي فترات تاريخية أخرى.. الضباط الليبيون والجنود في تركيا وتعلمهم في المدارس العسكرية ومشاركتهم مع الجيش التركي في جبهات النمسا والبلقان. واهتمام الحركة السنوسية أيام السيد المهدي وأحمد الشريف بالتدريب العسكري في الزوايا والتسليح.. ونشوء أدوار المقاومة والمحلات ضد الطليان.. ومدرسة نوري العسكرية في مصراتة.. ومدرسة أنور باشا لتدريب الصبيان على السلاح في طبرق.. ومصنع الذخيرة في إمساعد أيام الحرب العالمية الأولى. وعرف الليبييون هنا مع تنوع التجربة العسكرية.. الرتب والأوامر والانضباط والطاعة من خلال هذه التنظيمات الحربية. مداخل سريعة وإضاءات قد تكون هناك غيرها.. ذكرتها في إيجاز ربما تكون خلفية زمنية بعيدة لتشكل الجيش في ليبيا بعد سنوات.. وفي مضمونها تلمس طرق ودروب ما بعد التحرير والاستقلال.

حكومتي تدرك تمام الإدراك ما يخالج الشعب من رغبة تواقة في إيجاد جيش وطني يدعم استقلال البلاد ويحمي دمارها

حين استقرت الأمور في البلاد العام 1943 بنهاية الحرب «استمرت خارجها حتى العام 1945» تولت المقاليد السلطات البريطانية والفرنسية في أقاليم البلاد الثلاثة.. حل الجيش وانصرف رجاله إلى أعمالهم الخاصة.. وظلت مجموعة منه تعرف بقوة دفاع برقة ثم أضحت الحرس الأميري في برقة خلال 1949-1951. في مخاض قرارات الأمم المتحدة ومساعدتها الليبيين لتحقيق استقلالهم.. وفي اجتماعات مندوبها ولجان التنسيق كانت هناك توصيات ورؤى لإنشاء جيش ليبي باقتراح قدِّم من الحكومة الوطنية الموقتة برئاسة السيد محمود المنتصر والتي كان وزير دفاعها السيد عمر شنيب فيما خلص مندوب الأمم المتحدة في مذكرتة السرية المؤرخة في 20 أغسطس 1951.. إلى أنه «من المنتظر أن لا تنشأ في المستقبل العاجل أي قوات ليبية مسلحة وذلك بسبب التكاليف ولعدم توفر وسائل إنتاج الذخائر داخل ليبيا نظرًا للتكاليف الفاحشة التي يتطلبها إنشاء مثل هذه الوسائل لعدم وجود المواد المعدنية ومصادر القوة وارتفاع أسعار الأسلحة المستوردة من الخارج» مؤكدًا.. أن «أحسن وسيلة لضمان الدفاع عن ليبيا من العدوان الأجنبي تكون بموجب ترتيبات الضمان الجماعي للأمم المتحدة وعن طريق إبرام معاهدات السلم والصداقة مع البلدان المجاورة وغيرها من الدول.. ويتعين أن يقوم وزير الخارجية بالتعاون الوثيق مع وزير الدفاع بمثل هذه الترتيبات»!! ورغم ذلك.. شرعت البلاد في مواصلة إنشاء الجيش.

في أول جلسة للبرلمان الليبي بعد الاستقلال التي عُـقدت في بنغازي يوم 25 مارس 1952 وحيث أدى الملك اليمين الدستورية أمام البرلمان.. ورد في خطاب العرش الذي ألقاه السيد محمود المنتصر الآتي.. «إن حكومتي تدرك تمام الإدراك ما يخالج الشعب من رغبة تواقة في إيجاد جيش وطني يدعم استقلال البلاد ويحمي دمارها. وهي إذ تشاركه هذا الشعور تعمل بكل ما أُوتيت من جهد على تحقيق هذه الرغبة في أقرب وقت ممكن وقد شرعت بالفعل في إنشاء نواة لهذا الجيش ستنمو متدرجة عددًا وعدة نحو الكمال حسب ما يتوفر للحكومة من إمكانيات. ولما كان نمو الجيش متوقفًا إلى حد كبير على إيجاد الضباط الوطنيين الأكفاء فإن حكومتي على اتصال ببعض الحكومات العربية والأوروبية بشأن إرسال بعثات من الشبان اللائقين المتعلمين إلى كلياتها الحربية ليتلقوا فيها دروسهم العسكرية ويتدربوا على أساليب القيادة العصرية. وإنها لتأمل أن يتم هذا قريبًا إن شاء الله.

وليس بخافٍ على حكومتي ما للمال من أثر كبير في تجهيز الجيش وإعداده بجميع المعدات العسكرية الحديثة ولهذا ستعمل جادة في سبيل توفير المال اللازم لهذا الغرض». وكان هناك تصفيق حاد لتحقيق هذا الحلم الوطني. ورغم الظروف وقلة المال والإمكانات شرع في الخطوة الضرورية لحماية الوطن ودعم استقلاله.. وكان لابد من الجيش الليبي وإن طال الطريق.. وزاد اللهاث وتلاحقت الأنفاس.. وتعثرت الأقدام.

وجه النداء إلى الشباب الوطني.. وبقايا كوادر الجيش السنوسي.. وقدامي المحاربين.. وعين أول قائد للجيش العقيد عمران الجاضره.. الضابط الكبير في القوات التركية الذي استدعي لوضع الأسس والترتيبات مع وزارة الدفاع والخبراء والمختصين واقتراحات الأمم المتحدة. وأنشئ معسكر تدريب الأساس في سوسة.. وأرسلت بعثة مصغرة إلى بريطانيا لتلقي المعرفة العسكرية. لم يدم بقاء الجاضرة طويلاً في الجيش فغادر إلى تركيا لعدم توافقه مع بعض القيادات الإنجليزية. وتولى بعده قيادة الجيش ورئاسة الأركان في ليبيا ثلاثة من الضباط العراقيين.. هم داود سليمان الجنابي «1953-1955» عبدالقادر الناظمي «1955-1956» عادل أحمد راغب «1957-1958» وبين فترة الناظمي وراغب كلف الزعيم السنوسي الأطيوش بأعمال رئيس الأركان من 12 سبتمبر 1956 إلى 17 يوليو1957 وقد صار لاحقًا بعد راغب رئيسًا للأركان العامة اعتبارًا من 1958 إلى 1961.

خلال «الفترة العراقية العسكرية» أصبح التنظيم للجيش من الناحية الحربية والإدراية وفقًا للمدرسة العسكرية العراقية.. في التدريب والمصطلحات والتسميات.. وحتى في عبارات التوبيخ!! ووصلت أطقم التدريب من العراق وأسهمت إسهامًا كبيرًا في إنجاح خطوات تأسيس الجيش وكان عددهم حتى العام 1958 نحو 22 ضابطًا كبيرًا ما بين مدرسين ومعلمين وآمري إدارات وأمراء معسكرات، إضافة إلى إرسال البعثات للتدرب هناك.

إن الانتماء للجيش يعتبر انتماء للوطن بمقاييس تلك الأيام وبعد سبتمبر 1969 أصبحت للجيش صورة أخرى

لقد توافرت النية الصادقة من الجميع لإنشاء جيش وطني على أسس سليمة تستند إلى تراثه السابق منذ تكوينه في 9 أغسطس. وحملت أول وزارة للدفاع عقب الاستقلال النهوض بهذه المسؤولية وتولاها السيد علي أسعد الجربي في الحكومة الأولى للسيد محمود المنتصر. وكان سلفه في الوزارة السيد عمر فائق شنيب قد أسهم بدوره في التواصل مع مجلس الأمم المتحدة في ليبيا لهذا الغرض. وبدأ في تشكيل الكتائب بعد مرحله الأساس في سوسة.. كتيبة إدريس الأول ثم كتيبة عمر المختار ومنحت الأرقام العسكرية للضباط والجنود وأضحت أماكن المعسكرات الإيطالية القديمة في الغالب والتي استعملتها القوات البريطانية في طرابلس وبنغازي وغيرهما مقرات جديدة للجيش الليبي.. على سبيل المثال معسكر البركة ومعسكر رأس أعبيدة ومعسكر تاجوراء ومعسكر المرج ومعسكر قرجي ومعسكر درنة وكان سلاحه في أغلبة إنجليزيًّا والتحق العديد من أبناء الدواخل والمدن في هذا الجيش. وبدأ التوسع والتطور خطوة خطوة.

وبإسهام رائع من الضباط العراقيين في التدريب والتنظيم، ومنهم.. الزعيم شاكر محمود شكري والمقدم صالح شلال والمقدم كاظم مرهون وخضر محمد والرؤساء الأوائل عبدالجليل الجنابي وخليل القيسي ويونس عبدالله شهاب وسليم مانع وجميل السطام، والرؤساء باقر محمد حسين وإبراهيم كاظم ومحمود سعيد الدباغ. هكذا انطلق الجيش الليبي بالنوايا الصادقة والعزم والإخلاص والاستفادة من الخبرات العربية والأجنبية.

إن الانتماء للجيش يعتبر انتماء للوطن بمقاييس تلك الأيام وبعد سبتمبر 1969 أصبحت للجيش صورة أخرى يرددها بعض الذين يحبون القفز على حقائق التاريخ بسلبياته وإيجابياته ويصرون على أن تأسيس الجيش في ليبيا بدأ في 1 سبتمبر ذلك العام.
وتلك مسألة أخرى فيها الكثير من تقليب الوجوه وإعادة النظر لكنها تستوجب بالدرجة الأولى احترام التاريخ!