Atwasat

بلد الحاكم بأمر الله

محمد عقيلة العمامي الإثنين 06 أغسطس 2018, 10:22 صباحا
محمد عقيلة العمامي

تعد مدينة (جنوا) أهم موانيء إيطاليا، وأنا الذي كنت أعتقد أن ميناء نابولي هو الأهم، وأن مواطنيه هم الأكثر دهاء من بقية سكان إيطاليا، إلى أن اكتشفت أن رجلا من جنوا أسس في القرن الثالث عشر حكما بعيدا عن إيطاليا ونصب نفسه حاكما بأمر الله، وهذه صفه لم أطلقها ولكنه أطلقها على نفسه! العجيب أن طبيعة تضاريس البلد الذي احتله تجعل اجتياحه، في ذلك الوقت، أي قبل اكتشاف الديناميت أمرا مستحيلا. فالبلد مجرد صخرة عملاقة ترتفع حوالي 100 متر فوق سطح الأرض أحكمت حولها الأسوار شيد خلفها أثرياء، أو لصوص الإمبراطورية الرومانية، قصورا أنيقة بعيدا عن أعين الغوغاء وأحكموا حمايتها بأسوار يصعب اختراقها.

ولكن (رينيه جريمالدي) وهو مواطن من (جنوا) قد يكون ثائرا، أو لصا، قرر اقتحامها والسيطرة عليها بحيلة، صارت بعد ذلك معروفة بتواصل التاريخ، فماذا فعل؟ ارتدى جنوده لباس الرهبان ولما وصلوا باب السور المحكم لم يتردد الحراس في فتح أبوابه لهم فدخلوا وسيطروا عليها وأسسوا أصغر دولة في العالم ما زالت تحكم بسلالة السيد رينيه، حتى إن آخرهم يوقع الآن قرارته باسم: "رينيه الثالث الحاكم بأمر الله".

(موناكو) وهي قبلة أثرياء العالم، وتظاهرتُ ذات يوم برحلة رفقة أحد الأصدقاء، بأننا أثرياء، ولكننا لم نفلح في ذلك مطلقا

بقي أن تعرف أن مساحة هذه الدولة لا تزيد عن أقل من 2 كيلومتر مربع، وهي محاطة بفرنسا من كل ناحية وأمامها البحر الأبيض المتوسط- الخالي من مصبات (الخرارات)- ولها علمها الخاص بلونيه الأبيض والأحمر، ولغة خاصة وجيش قوامه ستون رجلا ومتاحف ومدارس وسكة حديد وأتوبيسات منتظمة ودقيقة المواعيد ورصيد فائض يفي بحاجياتها من دون الحاجة إلى تحصيل أية ضرائب من مواطنيها، إذ الناتج المحلي السنوي للفرد الواجد بحسب تقديرات سنة 2011 هو: 151.630 ألف دولار، علما بأن عدد سكانها يقل عن 38 ألف نسمة أما عمالتها فتبلغ 40 ألفا أغلبهم إيطاليون وفرنسيون وتدين بالمسيحية الكاثوليكية وأن حرية الأديان مكفولة بالدستور فهي إمارة دستورية منذ سنة 1911 فقط!.

اسم هذه الدولة: (موناكو) وهي قبلة أثرياء العالم، وتظاهرتُ ذات يوم برحلة رفقة أحد الأصدقاء، بأننا أثرياء، ولكننا لم نفلح في ذلك مطلقا على الرغم من أن صديقي كان بالفعل ثريا جدا، فلقد كانت ثياب وألوان ما يرتديه زوار موناكو يختلف تماما عما يراه المرء في أماكن أخرى، فلا يمكن مطلقا أن ترى اثنين متشابهين في لباسهما هناك باستثنائنا: أنا وصديقي. ولا يمكن أبدا أن تطلب طبقا يبدو قريبا ولو من بعيد مما يطلبونه، ولا أظن أبدا أن باب عربة من العربات الرياضية الملونة التي رأيتها هناك سيفتح لي، حتى لو سافرت -هذه الأيام- إلى تركيا! فغادرنا بعد أن اكتفينا بنظرات الازدراء ليس من الأثريا ولكن الخدم الإيطاليين والفرنسيين!

ولكن ما سبب هذا؟ وما سبب تواجد تلك المخلوقات التي لا علاقة لها ببقية البشر، من حيث الشكل واللبس والضحكات وتسريحات الشعر.. وأشياء خارقة أخرى؟ حسنا.. كل هذا البذخ والثراء سببه القسم الثالث من أقسام (موناكو). والعجيب أن هذا القسم وكذلك القسمين الآخرين يسمى كل منهم مدينة: فحيث قصر الأمير ومكاتب الحكومة يسمى مدينة موناكو والقسم الثاني يسمى (الكوندامين) وهي مدينة رجال الأعمال.

(مونت كارلو) حيث تقع دار الأوبرا الشهيرة والمسارح والفنادق الكبرى والمطاعم الفخمة والأندية الليلية وواحد من أكبر كازينوهات العالم للقمار

أما المدينة الثالثة هو القسم الصاخب هو مدينة (مونت كارلو) حيث تقع دار الأوبرا الشهيرة والمسارح والفنادق الكبرى والمطاعم الفخمة والأندية الليلية وواحد من أكبر كازينوهات العالم للقمار، فلقد منح فرنسي اسمه (مسيو فرانسوا بلان) ليصبح البؤرة التي تستقطب أثرياء العالم، فلقد وفر لها المسيو بلان، من بعد أن ربط المنطقة بالعالم بسبل المواصلات كافة، كل ما يخطر على بال الثري من المتع التي يتخيلها من فرق موسيقية تعزف طوال الليل والنهار والحدائق وأشهى المأكولات وأفخر أنواع الشراب.. وامسى المكان يعج بالغواني الفاتنات، الهاويات والمحترفات ومن يتعيشون من كدهن، وخفيفي الظل والجواسيس العالميين.. والقوادين ولقد بلغت أرباح مسيو بلان حوالي 20 مليون دولار سنويا، فيما تضاءلت ثروات أثرياء العالم الذين يرتادون ذلك الكازينو. وعلى الرغم من استقلال هذه الإمارة تظل فرنسا هي القوة الكامنة وراءها.