Atwasat

نواصي وعتبْ.. كلمة في رجل عرفته

نورالدين خليفة النمر الأحد 05 أغسطس 2018, 01:05 مساء
نورالدين خليفة النمر

في خريف عام 2012 دعاني الكاتب محمد وُرّيث، وكان وقتها مكلفا ـ استثناءً ـ، بإدارة مجمع اللغة العربية إلى أن أساهم بكلمة في تأبين الموسوعي الطرابلسي، رجل الدولة الفقيد فؤاد الكعبازي، فاعتذرت لضيق وقتي وانشغالي بمتاعبي. وأنا خارج منه مررت على نائب رئيس المجمع في مكتبه وهو صهره علي الصادق حُسنين الدبلوماسي العلَمْ الذي أجبره انقلاب العسكر في 1969 على الحكومة الملكية التي كان وزيراً فيها على تقاعد مبكر والانشغال بمجتمعيات الثقافة الليبية. وهو الذي تؤبنه هذه المقالة. فأخبرته باعتذاري مبرّراً حرجي بافتراض دعابة أني لو أبّنته: "الكعبازي" فأقول رثائي تحت عنوان "الكعبازي الذي عرفته، وماعرفته!" فابتسم رحمه الله بدبلوماسيته الودودة وقال لي "عندك حقْ!".

أنا اليوم عبر كلمة تأبيني هذه أحسب نفسي متكلما عن رجلٍ عرفته إنساناً هو الحرف ومكانه المعنى، هو الوجه وطرابلسه القفا، هو الظاهر ومدينته هي المخفي رغبةً في القلب وهوىً في الروح. أباح عن نفسه في نص حنيني "نوستلجي" معرفي توثيقي هو "شارع كوشة الصُفار بين ذاكرتين" نُشر قسمه الأوّل، واحتجب الثاني في عدد من مجلة تراث الشعب المؤودة ـ طبعه بسبب إفلاس البلاد والعباد ـ عام 2013 رئيس تحريرها محمد وريّث علي نفقته، وفي ميزان حسناته، وقسمه الثالث لازال حبيس الأوراق ينتظر وما بدّل تبديلا.

بلهجة الطربُلسي ومثله أدرجتُ بما يخاطب جمهور الفيس بوك الليبي تعريفا بالعلمْ المؤبن نصّاً وسمته بعنوان "حوكي وحرايري.. حمّاق وبصايري"

لا يمكن عزل المكان، طرابلس في بعض كتابات علي حُسنين، وترجماته عن تذكاره وقد صار شارعه في مدينته، فيكتب عنه، يدفعه حنينٌ إلى مرتع صباه حيث شاءت الأقدار أن يحل به وهو في السابعة من عمره، تاركا شارع ميزران مسقط رأسه ورأس كل من أبيه وأمه وأخوته وأعمامه وعماته وأخواله وخالاته. وقد انتهت رحلته بالمدينة في خريف حياته إنساناً مسعاه الأنجح إعادة تشكيل العالم الذي عاش فيه بإرادة أبوية غائبة موضعا وهجرة ومعاشاً في أفريقيا، ساكنة وجداناً حسب وصف الأب لها في "حومة المسلمين" كل ذاك العمر، في حيّ كوشة سيدي الصُفار بأن صار معيشه وفق نزعاته، الرغبة الإنسانية التي صارت بتداعي العمر أهواءً أُفردت لها في تطور إبستمولجي لافت المباحث في السيميائية "الكريماسية" درساً في التحول من الفعل إلى سيميائيات الهوى باعتباره أريجا ملازما للذات.

بلهجة الطربُلسي ومثله أدرجتُ بما يخاطب جمهور الفيس بوك الليبي تعريفا بالعلمْ المؤبن نصّاً وسمته بعنوان "حوكي وحرايري.. حمّاق وبصايري" فكتبتُ: .. الرحلة نواصي وعتبْ والرّحالة أبي عبدالله بن مسعود العبدري لم يكن ناصية وكان العتبة، فكان النشاز في المعزوفة المادحة لطيبة الطرابلسية خلقا وذوقاً، سلوكا، وتمديناً، فوصفهم دون أضرابه من الرحالة الآخرين من إبن بطوطة عبر الوزّان، والتُجيبي السبتي والبلوي والفاسي والعياشي والحشائشي، والأسحاقي المغربي الذي رافق السلطان محمد بن عبد الله باني جامع مولاي محمد المعمور فيصفهم بقادح القول ناعياً عليهم مدنيتهم، ومجتمعيتهم، وهو ما ألجأ الأديب الموسوعي خليفة التليسي إلى أن يصفه بالمشاكس الصعب، شرس الطبع، مستثارٌ لايعجبه العجبْ، فلقى من أهلها مالايحبْ، لكننا قد نُجاري العبدري في بعضٍ من وصفه بأن الليبي بطبيعته، ضيّق الخُلق،منرفز، يسري عليه المثل "من زبيبة يسكر " ناريُّ الغضب مثل شاهيه في البرّاد (الأبريق) يغلي علي نار من حَطبْ.

موّثق الاجتماعيات الطرابلسية بشير الفلاّح يفسر "النفسية الليبية الهـمّ" بالمثل الطرابلسي "حوكي وحرايري" وهو حال إنساننا اليوم، يسعى إلى حلّ مشاكله باستعجال توازي الوقت الواحد، فيراكم همّاً على همّ. فوُصف الليبي ضميراً، بالشعب المستعجل ومحاربه قاتله "الميليشاوي" بالمواطن المحترم.

لماذا جذبنا الحوكي بالاسم، لأنه كادح، خيره في ذراعه "شغل وبس!" كتوم طول اليوم و"كلمتين وقصّ"

لكن لماذا جذبنا الحوكي بالاسم، لأنه كادح، خيره في ذراعه "شغل وبس!" كتوم طول اليوم و"كلمتين وقصّ". لأن دماغه ويديه تتحرك في مجال ضيّق. فإن كان حوكياً فمهنته تعبئة خامة القطنْ والحرير في البكرات، وإن كان حرايرياً يمرُّ حذراً على نوله بين خطوط الردوات (نسيج الأردية).

لكن مؤرخ الثقافة علي حُسنين يعطينا صورة مخالفة عن أخوة عائلة الورّاق كانا له في كتابته لسيرة شارع كوشة الصفار ذاكرتين، صبر وسعة بال: الصغير حوكي والكبير موظف زميل له بنظارة الأشغال، معينً لأخيه كـ "حرايري" والاثنان يتداولان "جامع الناقة" المعمور بالخير والحسنات عبدالله مؤذن ومحمد للصلاة إمام أوقات، تُقى وجود وإحسان ولين. رحم الله أستاذنا علي الصادق حُسنين وكلّ من آتى على ذكرهم بالخير في تذكاره "شارع كوشة الصُفار بين ذاكرتين" بأحسان إلى يوم الدين بحمد الله وغفرانه، آمين.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* سيمياء الأهواء: نظرية قائمة الذات في سيميائيات sémiologie السردية (الكريماسية)، لدراسة الانفعالات الجسدية والحالات النفسية، ووصف آليات اشتغال المعنى داخل النصوص والخطابات الاستهوائية. وقد ظهر هذا المبحث الشيّق لأول مرة في كتاب ألف مشتركاً من طرف كريماس وجاك فونتانيي سنة 1991 تحت عنوان: "من حالات الأشياء إلى حالات النفس" .
*ألجيرداس جوليان كريماس A J Greimas رائد مدرسة باريس لـ :السيميائيات البنيوية : بدأت كمساهة لرفد ميدان السرديات بصور جديدة عن النصوص السردية وعن طرق بنائها، لتتجه، مع نهاية ثمانينات القرن الـ 20، إلى دراسة ما سيسميه كريماس بـ "سيميائيات الأهواء، فيصبح "الحنين" كـ "الحب والغيرة والشغف والاستفزاز والتحدي" وكل الطاقات الانفعالية المصنفة ثقافياً واجتماعياً خارج "العقل"، موضوعاً من موضوعات السيميائيات.