Atwasat

الطبقة الليبية المستنيرة

عبد الكافي المغربي الخميس 02 أغسطس 2018, 10:12 صباحا
عبد الكافي المغربي

وضع الكاتب الكبير عمر الككلي مقالا حول المؤلفة المستنيرة التي كادت تكون قرينة إدريس الأول لولا أن عرضت عوارض أعاقت تمام الأمر، ومثلُ الكاتب، عجِبتُ كيفَ دَفَنت ظُلْمة العصر الذي أقبل مع بداية العشرية السادسة من القرن الماضي ذكرى الكاتبة المتفردة المبتدعة لفن من العبارة لم يقدر له أن ينتظم شتاته بالنقد وانتساب المنتسبين إلى مدرسته.

والحق أن ما أورده عمر الككلي من أقوال البعض وأقواله هو في تفسير إخفاقها عن أن تكون لها حيثية في المجتمع الثقافي لا مزيدَ عليها، إلا أنه حتى في ذلك الطور السعيد من أطوار أمتنا الذي كان أثناءه الإصلاح الاجتماعي يسير في طريقه غير هيّاب والشعبُ يَكْلفُ بما تقدمه قراءة الأدب من تسلية، ومطالعته الفكرَ تفُّض عذرية العقل وتخصبه، نافضة عنه غشاوة السذاجة.

أقول في ذلك الطور كان على الكاتب الذي يرغب إلى نصْب قامته الثقافية أن يراضي في القراء ذلك النزوع إلى قصص الدين والعالم الذي لا يحيط به عِلم، ذلك النزوع الذي لم تستأصلهُ الاستنارة، فكتب طه حسين على هامش السيرة، والوعد الحق، والشيخان، والمعذبون في الأرض، وألَّفَ هيكل حياة محمد، وهكذا خلقت، والعقاد قدّم عبقرياته. وباعت هذه الكتب أكثر مما باعت قصص نجيب محفوظ قبل أن يفوز بإعجاب الأكاديمية السويدية.

محنة المستنير الليبي بعض ما لعلها قد ابتأست له أبكار، بل قد تكون أكثر شُغْلًا وأشد إنكاءًا وأبعث على التشاؤم

ومحنة المستنير الليبي بعض ما لعلها قد ابتأست له أبكار، بل قد تكون أكثر شُغْلًا وأشد إنكاءًا وأبعث على التشاؤم. هو أجنبي في داره، مجهول في مجتمع جاهل، عاجز عن أن يتولى عن إملاءات الحاضر وطموحات المستقبل فيرجع إلى الماضي يستلهمُه. وينوء بالمثقف أن يعبث بِآبَاط المشكلة التي هو جزء منها، وكيفَ تتصرف المشاكل بحكمة أو تستجيب رغمًا فتتمخض عن حلولها، والجواب أن القراءة بما تدفع إليه من الإمعان في التفكير، وإن قدرت على المداومين عليها الانزواء، فإنها على الأقل تُقرِّب البعيدَ فهمُهُ، إن عجزت عن توصيف الحلول.

يبصر المستنير الليبي إلى بلاده وهي في حال من الاضمحلال والجهالة وسيادة العنف وتغلب التعصب على التسامح ما كانت عليها أوروبا الغربية قبل لويس الرابع عشر، فينتصب متذمرا من المدارس التي اقتبستها النهضة العربية من الحضارة الأوروبية لتعِدّ النشء لحياة المسؤولية والتفكير المدبر، إذا هي تستل من حياة التلميذ عقدًا كاملًا يخرج خلاله أحسنهم حالًا وأعظمهم ذكاءًا بإحاطة بالقراءة. ويتبرم بإقبال دهماء الناس وسوادهم على نداء الجمعة يصب الخطيب في آذانهم نسخة معادة منذ الأزل، ويدعو بالهداية لولي أمر لا تريد السماء أن تستجيب فتُصلِحه. والرجل منهم يدثر ابنته نِفاقًا بلباس العجائز وإن كانت القوة والحيلة كلاهما أعجزاه إزاء تقدم المجتمع نحو الفساد، واستباق الفتيات إلى الخلاعة. والجهل ينحتون منه تمثالًا يتملقونه.

والعامة أمل المثقف، وأمل أنفسهم في التغيير، يأخذون على المستنير الليبي خطابه المتسامي الذي لا يتواضع فيُمسي قابلا أن يُتلقى، وهو يسخر من الأفكار المقدسة التي يقيمونها في أحسن منزلة من أنفسهم. والمستنير رجل تفلسف وسفسطة، يتحدث كثيرًا وإن لحديثه لسحرًا، لكنه لا يملك من أمره ما يفرض أفكاره في الواقع وينأى بها عن زيف الخيال.

وما يجعل المستنير منبوذًا في مجتمعه، أجنبيًا عن أسرته، ذلك التفكير العميق الذي توْرِثه القراءة، وتلك العزلة المُفْضية إلى بعض الاكتشافات التي تفضح إليه شذوذ مجتمعه وتخبطه وجموده، وهذه الفجاجة في التفكير الجمعي وذلك الانحراف المتفق عليه عن طريق المعرفة، ما يصنع من السخافات صيدًا لنقد المثقف. وجزء من المشكلة أن شواغل هذا العصر، التي لا تقاس إلى هناء بال المفكر في عصر فولتير، تتيح للأطروحات المبتسرة التسلل من فكر المستنير إلى الأوساط، ناهيك عن الضغط السياسي الذي تمارسه السلطة واضطهاد رجال الدين للتقدمية. ويمكن أن نكتب مرارا مطالبين بثورة تنويرية شاملة تعزز الحرية العقلية وتعمل على تمكين الحرية السياسية والاجتماعية من الرجعية، لكن ألم يكن المثقفون الليبيون إلا أدباءَ ونقادا ملتزمين إلى جانب مهمتهم الثقافية بعمل يكفل لهم قوت أولادهم، وسرعان ما يصرفهم عملهم بالكلية عن الاتصال بالكتاب والجلوس لأداء واجبهم التنويري. والتقدم لا يستطيعه كاتبٌ فرد، بل لا تملكه جماعة من المفكرين منظمة.

لن يتم التنوير إلا إذا أنشئت الصحف والمجلات والتلفزيون وكانت هذه منابر تذيع الأيديولوجيا الحديثة

لن يتم التنوير إلا إذا أنشئت الصحف والمجلات والتلفزيون وكانت هذه منابر تذيع الأيديولوجيا الحديثة، وقامت الجامعات تندر مواردها لإذكاء روح الثقافة وتشجيع المختصين ورعاية بحوث الآداب والتاريخ والنقد الاجتماعي، وتقريب المطالعة إلى النفوس وإقرار النقد السياسي منهجًا للتغيير. ذلك بعيدٌ منالُه، وفق ظروفنا المخيبة.