Atwasat

10- منصور رشيد الكيخيا شيخ قضايا الاختفاء القسري: عذابات الضمير

محمد المهدي الفرجاني الأربعاء 01 أغسطس 2018, 10:13 صباحا
محمد المهدي الفرجاني

في حلقة سابقة ذكرت أن دفعتي تتكون من (20) عنصرا، أوفدنا جميعا إلى بريطانيا بحسب اتفاق مدفوع الثمن ما بين وزارة الداخلية الليبية والحكومة البريطانية حينما كان (هارولد ويلسون) رئيس حزب العمال البريطاني رئيسا للحكومة. لقد تولى حينها جهاز أمن الدولة الليبي الذي كان يترأسه العقيد إدريس على الإشراف على تدريب هذه الدفعة على أعمال المخابرات ومقاومة التجسس.

لقد جرت العادة، في مثل هذه الأجهزة، أن تكون العناصر مناصفة بين طرابلس وبنغازي، وعلى هذا الأساس كانت هذه الدفعة. ولقد وصلنا إلى لندن على دفعات حتى لا نلفت النظر، وتلقينا دروس اللغة الإنجليزية في مدارس موزعة على عدة مدن. مدرستي كانت بالقرب (من أكسفورد سيركس) وهو أكبر شارع تجاري بالعاصمة البريطانية. في هذه المدرسة كان محمد عبد الغفار، الذي أصبح فيما بعد – آمر قاعدة الوطية الجوية - ومحمد سالم نعامة – مدير مكتب رئيس الأمن الخارجي، ومحمد عمر البابا، الذي كلف لاحقا برئاسة مجلس إدارة مؤسسة القذافي للأعمال الخيرية. ومفتاح محمد الزادمه، شقيق عبد السلام الزادمه، ومحمد مسعود المقصبي دكتور بجامعة قاريونس، ومحمد سلطان الورشفاني، وعيسى عمر جعوده، ابن وزير الصحة في العهد الملكي والذي أصبح فيما بعد رجل أعمال. ومحمد المهدي الفرجاني وقد أصبحت رجل أعمال من بعد استقالتي المسببة في 1989ومحمد عبد الله رمضان هويدي المدير الإدارى للمالية بجهاز النهرالصناعي العظيم، والزروق أبوزقيه بمؤسسة السلع التموينية.

في أواخر عام 1993 رجعت من مصر وذهبت إلى طرابلس في زيارة عمل، فلقد عثرت على من يبيع مادة (الزئبق الأحمر المشع)

لقد حددت فقط العناصر التي درسنا معا اللغة، والتي كان يرأسها الملازم أول على قنيبر. ولقد ارتبطت بمحمد سالم نعامة، وبالعقيد طيار محمد عبد الغفار بصداقة عميقة استمرت إلى ما بعد خروجي من الجهاز. ولأن إقامتنا في لندن حيث المعيشة المرتفعة، صرنا أفقر مجموعات الدورة، وإن كنت أكثرهم عوزا، ولذا لم نكن نفترق حتى بعد انتهاء دروسنا على الرغم من أنني كنت أقيم خارج لندن، أما هما فكانا يقيمان مع سيدة تدعى (مسز نورمان) في (ساوث كنزجتون) حيث توجد مدرسة تدريب العملاء ( ديتيكتف تريننج سكول) ومن هنا أصبحت علاقتي جيدة وحميمة بنعامة وعبد الغفار الذي أصبح برتبة عميد طيار وآمر قاعدة الوطية، وقائد أسراب طائرات الميج.

في أواخر عام 1993 رجعت من مصر وذهبت إلى طرابلس في زيارة عمل، فلقد عثرت على من يبيع مادة (الزئبق الأحمر المشع).
فلقد كنت أعرف شيئا عن برنامج القذافي الذري، الذي كلف به العميد أحمد محمد الزوي، وأعرف شيئا عن مفاعل تاجورا الذري للأبحاث. ذهبت برفقة شقيقي صالح إلى العميد أحمد، وعرضتُ عليه الأمر فشكك في ذلك كثيرا نظرا لخطورة الموضوع، وعدم الحصول عليه بسهولة، فمثل هذه المواد تتولاها دول وليس أفرادا، عندها قررت الذهاب إلى نعامة ليعرض الموضوع نيابة عني على العقيد عبد الله السنوسي رجل القذافي القوي وقتها، وأتفاجأ بعد عرض الموضوع عليه أن أكتب مذكرة تفصيلية أكشف فيها الحقائق كلها عن مصادري وعن وأصل منشأ الزئبق الأحمر المشع، ولما بلغني نعامة بذلك رفضت الكشف عن المصدر وامتنعت عن كتابة المذكرة، وغادرت متجاوزا الموضوع برمته!. لقد بررت رفضي أنني تاجر أعرض بضاعة أعرف قيمتها وثمنها، وبين البائع والشاري كلمة (يفتح الله) دون الدخول في متاهة أصول التعامل مع المخابرات، كنت أعرف أن عبد الله السنوسي يعرف أن مصدر هذه السلعة هو روسيا بعد تفكيك الاتحاد السوفيتي، ثم عرفت لاحقا أن المصدر قد باع الكمية إلى باكستان، وقامت دولة عربية بدفع الثمن كهدية منها للمشروع الذري الباكستاني.

على مائدة عشاء خاصة بطرابلس، التي لم يحضرها محمد عبد الغفار، لأن نعامة تعمد ألاّ يدعوه على غير العادة. ولكنني عرفت السبب بانتهاء وجبة العشاء، التي ،على غير العادة، أكثر نعامة خلالها من تناول الخمر لدرجة الإفراط. وسألته كصديق يهتم لأمره، عن السبب؟.

أخبرني أنه أجرم في حق إنسان لم يسيء إليه، ولم يكن يعرفه، وأنه ساهم بشكل كبير ومركزي في عملية خطفه وإحضاره قسرا من مصر إلى ليبيا، لأنه كان مطلوبا بشدة، ويتعين إحضاره إلى طرابلس، وإنهاء دوره المُعارض، بسبب خطورته على نظام القذافي، وأن خطورته تمثلت في محاولته توحيد فصائل المعارضة، التي تمكنا من اختراقها، وأن ضميره يؤنبه كثيرا وبشكل مخيف!.
صمتُ ونظرت إليه باستغراب، متعمدا الغباء، ومن دون أن أسأله عن الضحية، قال: "إنه منصور رشيد الكيخيا!" فسألته عن علاقته بالأمر، فـاختصر الموضوع في كلمات. قال: "لقد رافقته من البيت الآمن في القاهرة إلى طرابلس برا ثم جوا"، ثم أضاف لقد وصلت مصر بفريق من الجهاز، تابعناه في القاهرة كظله، لا نفارقه إلاّ عند النوم".

منذ اليوم الأول الذي وجهت فيه الدعوة لمنصور الكيخيا لزيارة مصر لحضور اجتماع المنظمة العربية لحقوق الإنسان في القاهرة، تقرر اختطافه

لقد أخبرني أنهم تعرفوا عند متابعته على بعض أعضاء المعارضة، والذين زاروه وصورناهم جميعا، ولكن لم يكن هناك مجال للتعامل معهم، خشية من إفساد عملية الاختطاف وهي الأهم. وأكد أنه لم ير إنسانا مهملا في أمنه الشخصي مثله. قال: "إنه يتحدث مع أي شخص يقابله بأريحية.. مع العاملين في مقاهي الفندق، ومطاعمه.. يتحدث ببساطة وتواضع .." ثم أضاف أن افضل وسيلة للتعرف على أعضاء المعارضة في أي بلد، ما عليك إلاّ أن تتبع حركة منصور الكيخياـ وهذا أمر سهل للغاية، وسوف تجدهم يزورونه كافة.. وما على أي ضابط مكلف إلاّ أن يجلس ويرصد ويصور ويسجل..". ثم وضح أنه بالتأكيد لم يتلق أية تعليمات أو تدريبات في كيفية تأمين نفسه. مؤكدا أنه يعرف أنه مطلوب بشدة للنظام الليبي، وبصورة غير مسبوقة. لقد أخبرني أن هناك عدة حالات انتهك فيها الأمن الليبي السيادة المصرية، وأخبرني عن عدد منها، فخطفه لم يكن جديدا عن الأمن الليبي. لم تتعظ المعارضة من محاولة اغتيال رئيس الوزراء الأسبق عبد الحميد البكوش، التي رغم أنها فشلت، إلاّ أنها مؤشر على نوايا الأمن الليبي، ولم تتعظ من محاول اختطاف طائرة اللواء عبد المنعم الهوني وهي في طريقها من القاهرة إلى روما، وهي التي أفشلها الأمن الإيطالي، وقبضوا على عناصرها، ومنها فتح ملف الاختطاف الليبي على مصرعيه، مع العلم أن هناك عمليات خطف من مصر تمت بنجاح، قبل اختطاف منصور الكيخيا، منها خطف المعارضين عزات يوسف المقريف، وجاب الله مطر.

منذ اليوم الأول الذي وجهت فيه الدعوة لمنصور الكيخيا لزيارة مصر لحضور اجتماع المنظمة العربية لحقوق الإنسان في القاهرة، تقرر اختطافه، واتخذت الإجراءات اللازمة، وأعدت الخطة ولا تنتظر إلاّ التنفيذ والرجوع به إلى ليبيا. تم إعداد جواز سفر له باسم مستعار وجهزت سيارة المراسم من بنغازي، وحددت أسماء السائقين والمرافقين والحراس الضروريين من أعضاء الجهاز.

واستطرد نعامه: "كلفت برئاسة العملية وتنفيذها، وكانت مهمتي تبدأ من لحظة وصول منصور إلى البيت الآمن الذي نصب له كفخ لمقابلة مسئول قادم إليه من ليبيا. والحقيقية أنه أدرك أنه مختطف من اللحظة التي رأى فيها إبراهيم البشاري وقام العقيد (ع.س.) بتخديره ونقل إلى سيارة المراسم وصعدت بجانبه، ورافقتني ثلاث سيارات مراسم تفتح الطريق أمامي وعبرنا الحدود المصرية الليبية حوالي الساعة السادسة صباحا، ودخلنا امساعد، عندها أدركت أن عملية الاختطاف قد تمت بنجاح. وجدنا بالحدود السيدين (ع.أ.ع ) ومعه (م.ب) ولقد عينا فيما بعد وزيرين!. أنت لا تتخيل معاناتي بسبب إحساسي أننى أجرمت في حق نفسي، وفي حق منصور، والأهم أنني أخطأت في حق الوطن.

أسهب قليلا وكأنه يبحث في أعماقه عن شيء ما، مال ببصره نحوي وقال: "محظوظ أنت يا أخي بقبول استقالتك، من دون أن تعرض على معمر القذافي.. تعرف يا محمد أن قبول مثل هذه الاستقالات القرار فيها للقذافي دون سواه، ولكن العصابة التي سيطرت على الجهاز رأت أن تقبلها من دون رفعها إلى القذافي، خصوصا وأنها مطولة ومسببة. لقد واجهتهم بشجاعة مبرزا انحراف الجهاز عن أساس واجباته.." ثم صمت قليلا، قبل أن يستطرد وكأنه يكلم نفسه: "أنا الآن أمثل هذا الانحراف بامتياز.." ثم نظر في عيني مباشرة وقال: "لم أستطع أن أرفض المهمة.. لقد خفت، إن معرفة الكثير من أسرار الدولة بحكم موقعك تجعلك مشروع هدف للاغتيال.. وأنا أخفف عن نفسي بإخبارك عن جزء بسيط عما قمت به وهو اختطاف منصور الكيخيا، الذي أنكر النظام علاقته به.

لقد زارت السيدة بهاء العمري زوجة منصور الكيخيا، الذي ذرف أمامها الدموع السخية مؤكدا أنه يعتبر منصور صديقه، وأنه سوف يساعدها بالسبل كلها لمعرفة مصيره، ولقد استعرض أمامها صورا تجمعهما معا، بعضها حقيقي وبعضها مدبلج، وعرض عليها خدماته المالية.." وطال صمته قبل أن يتجرع كأسه دفعة واحدة ونظر إلىّ بانكسار ثم قال: "أحس يا صديقي أنني غير آمن على حياتي، وهذا ما جعلني أغرق في الخمر. والوحدة تحاصرني.." ثم نظر مباشرة في عيني وقال: "إنني أتحدث معك، لأنني أعرف مدى عمر صداقتنا، وحجم صدقك وأمانتك منذ تعرفنا على بعضنا البعض في لندن..".

كما تدين تدان، انطباعات عدة تركها في أعماقي المرحوم محمد سالم نعامة. كان أبرزها لماذا لا أجمع المادة والعناصر والأحداث وأعد منها كتابا عن اختطاف منصور الكيخيا؟

خرجت من شقته الخاصة، بالقرب من شارع بن عاشور، مهموما بأسئلة تسلطت علىّ: لماذا لا تكون خصومة النظام شريفة الصراع؟. لماذا تسخير إمكانيات الدولة لمطاردة معارضي نظام القذافي؟. لماذا كل هذا الإجرام في حق الذين يختلفون مع النظام في الرأي والرؤية؟. لماذا لا يفهمون أنهم أتوا على ظهور الدبابات دون دعوة من الشعب ليحكموه، وأن المنطق يقول أنهم سيغادرون بالطريقة نفسها، وقد لا يكونون عندها أحياء.

كما تدين تدان، انطباعات عدة تركها في أعماقي المرحوم محمد سالم نعامة. كان أبرزها لماذا لا أجمع المادة والعناصر والأحداث وأعد منها كتابا عن اختطاف منصور الكيخيا؟. وفعلا أعددت الكتاب في مسودته الأولية، وتحدثت عنها إلى المرحوم العميد عبد الرحمن الشائبي، وأعطيته له، وأرجعها لي بعد يومين في فندق الودان، ثم طلبها مني أخي وصديقي على محمود الغرياني وأعطيتها له، وقرأها، أيضا، صديقي وأخي الدكتور محمد حسن البرغثي، سفيرنا في الأردن، وجميعهم شجعوني على المضي في الكتابة ولكن من دون ذكر أسماء، ولكنني رأيت انها ستكون مشوهة ومملة، وأخيرا نصحوني باللجوء إلى الرمز من دون ذكر أسماء صراحة.