Atwasat

9- منصور رشيد الكيخيا شيخ قضايا الاختفاء القسري: (مصيدة ندوة الفكر الثوري)

محمد المهدي الفرجاني الإثنين 23 يوليو 2018, 11:14 صباحا
محمد المهدي الفرجاني

بتاريخ 6/ 5/ 1970 دعا القذافي صفوة الشعب الليبي من مفكرين ومثقفين وكتاب وإعلاميين وسياسيين وحزبيين- وهم الأهم - إلى ندوة موسعة أسماها ندوة الفكر الثوري. أقيمت الندوة في طرابلس وجعلها مفتوحة، متاحة للجميع، غير مقيدة بسقف أو زمن، بل كانت كافة المواضيع التي تخص الفكر الثوري ووعاءه مفتوحة ومتاحة للجميع.

لقد تسابقت كل الفئات التي رأت أنها قادرة على خوض المواضيع المطروحة، وكان كل يغنى على ليلاه: بقايا حركة القوميين العرب، من مجموعة 106، وبقايا حزب البعث العربي الاشتراكي، والغريب هنا أن الجميع يتحدث عن حزب البعث دون أن يحددوا هوية أي حزب منه: هل هو حزب البعث للقطر العراقي؟ أو حزب البعث للقطر السوري؟ ولا أحسب أن أيا من الحاضرين، باستثناء قلة، كانوا يعرفون الاختلاف الدقيق الذي جعل حزب البعث العربي الاشتراكي ينقسم على نفسه، وهو الذي رفع شعار الوحدة والحرية والاشتراكية. فإذا كان الحزب وحدويا يهدف إلى توحيد الوطن العربي في دولة قومية واحدة كان الأجدر به أن يوحد الحزب في القطرين اللذين يحكمهما. أما عن التيار الديني السياسي فقد كان في ذلك الوقت محصورا في جماعة الأخوان المسلمين وحزب التحرير الإسلامي، أما باقي التنظيمات الإسلامية المعروفة اليوم لم تكن متواجدة، ولم تظهر حتى ذلك الوقت على الساحات السياسية في الوطن العربي والإسلامي.

لقد كنت دائما مبهورا بالذكاء الفطري لمعمر القذافي

لقد كنت دائما مبهورا بالذكاء الفطري لمعمر القذافي، فلقد أراد أن يتعرف على الطيف السياسي والفكري والثقافي لمكونات المجتمع الليبي، لقد رصدته وهو في منصة الندوة، وهو يسمح للجميع أن يتحدثوا عما يريدون، وكانت أمامه حافظة أوراق لم يكن يدون فيها ما يتحدث عنه المشاركون، بل كان يدون أسماءهم فقط، ويضع ملاحظات على انتماءاتهم الحزبية، من خلال مشاركاتهم في الندوة – الفكرية والأيديولوجية- كان يتعرف عليهم ويصنفهم كلا حسب انتماءاته السياسية، كان البعثي واضحا وكذلك الإقليمي الضيق، واليساريون والشيوعيون وحتى الذين ينتمون إلى التيار الإسلامي "الذين يريدون تقويم اعوجاج القذافي بحد السيف".

لقد برزوا في ندوة الفكر الثوري. في هذه الندوة سلط معمر القذافي عمر المحيشي على جميع المشاركين، وفتح معهم حوارات جانبية أثرت ما كان يريده القذافي وسهلت التعرف عليهم، ولعل المشادة الحوارية التي دارت بين صادق النيهوم والمحيشي التي كان أبرزها قول النيهوم متهما المحيشي بالجهل: "إما أن تكون اللغة العربية غير قادرة على حمل معانيها، وإما أن أكون أنا غير قادر عن التعبير عن نفسي". والمحيشي كان طول الوقت مستفزا للجميع، عدوانيا من دون سبب. وبعد أن غادر ليبيا في أغسطس 1975 هاربا من بعد فشل محاولته الانقلابية على القذافي لم يحترمه أحد من الليبيين الذين كانوا على خلاف مع القذافي ونظامه. لقد تعمد القذافي بذكائه الحاد أن يحرق عمر المحيشي سياسيا في ندوة الفكر الثوري، وأيضا، وبامتياز، من خلال تكليفه بأن يكون النائب العام العسكري.

منصور الكيخيا كان في تلك الفترة في طرابلس يتابع وقائع جلسات هذه الندوة، وهو أيضا لم يدرك حقل الألغام المعرفي، الذي نصبه معمر القذافي للمشاركين في الندوة، الذين يطالبون مجلس قيادة الثورة بمغادرة منصة الحكم في ليبيا والرجوع إلى ثكناتهم وتسليم السلطة إلى للمدنيين الذين كانوا ينادون بالدستور، وتحقيق الديمقراطية عن طريق صناديق الانتخابات، والعودة إلى الحياة البرلمانية. هذه الرؤية بهذه الأفكار لم تكن أبدا واردة عند القذافي منذ ذلك الوقت.

منصور في طرابلس كان يتولى قضايا الدفاع عن الموقوفين من عسكريين ومدنيين أيام المحاكم المدنية والعسكرية

منصور في طرابلس كان يتولى قضايا الدفاع عن الموقوفين من عسكريين ومدنيين أيام المحاكم المدنية والعسكرية، ولقد احتك بالنقيب عمر المحيشي عندما كان المدعي العسكري العام، أمام المحكمة العسكرية. حينها فهم منصور الكيخيا الرؤية المستقبلية للثورة الليبية، وهي ليس ثمة أمل في تسليم السلطة للمدنيين تحت أي مسمى، ولكن تظل أمامه مشكلة انتمائه الحزبي. فهو بعثي وتعرف على العسكر الذين يديرون الوطن، من خلال تمثيله للمتهمين في المحاكم المختلفة، أو في وقت لاحق عندما كان وكيلا لوزارة الخارجية، ثم وزيرا لها، والأهم أنه كان ممثلا لليبيا في الأمم المتحدة. هنا انتبه إلى أهمية موقعة وماذا تعني أن يكون المسئول رجل دولة، أو رجلا أمميا.

القذافي استوعب بذكائه الفطري، كل الطيف السياسي والإسلامي من خلال جلسات ندوة الفكر الثوري. لم يكن يحلم أبدا أنه سيتوصل إلى هذه المعلومات لو لم يخترع هذه الندوة، التي مهدت له أن يعرف، ثم ينفرد بهؤلاء كلهم ويلغيهم ويرميهم في السجون.
اتفق أعضاء مجلس قيادة الثورة على أن يتركوا الحكم للمدنيين في عام 1973 ويدعوا إلى انتخابات عامة، ويستفتى الشعب على الدستور، هكذا اتفقوا؛ وكلف المجلس العقيد معمر القذافي بإعلان ذلك على الشعب واختاروا مدينة زوارة لتكون المكان الذي يعلن منه القذافي تخلي العسكر عن السلطة والرجوع إلى ثكناتهم. ولكن بدلا من أن يعلن القذافي ذلك، أطلق الثورة الشعبية في نقاطها الخمس. تمثلت في الثورة الثقافية والشعبية والإدارية، ممهدا لإلغاء مجلس قيادة الثورة نفسه، وإطلاق ما عرف لاحقا بالثورة الشعبية لإدارة البلاد ويكون القذافي قائدا للثورة وموجها لها، حدث ذلك سنة 1973 وكانت هذه بداية المأساة في ليبيا.

قام معمر القذافي في البداية بزج جميع من تعرف عليهم في ندوة الفكر الثوري وأيضا جميع من كان له قيود لدى جهازي المباحث العامة والمخابرات العامة في السجون، والمعتقلات، وحتى الذيم كانوا يوزعون المناشير ضد نظام القذافي، مثل أحمد يوسف بورحيل، وعبد المولى دغمان. أما بقية المساجين والمعتقلين فكانوا يمثلون تيارات عدة منهم الماركسيون أمثال الدكتور محمد المفتي، ثم سجن في السنة نفسها المبروك الزول وعبد العاطي وعبد الغني خنفر البرعصي، وعمر المختار، وجمعة الحزر الفرجاني، وغيرهم ثم قام بسجن من كان مشاركا في انقلاب عمر المحيشي سنة 1975 ، ثم طلبة 7 ابريل سنة 1976منهم إدريس المسماري*، وإدريس لياس، وإدريس الطيب* وخالد عمر الترجمان وماهر بوشريده، ونوري الماقني، وعبد السلام الجريدي، وبشير جربوع، ومصطفى الفار، وفتح الله انديشه،وجابر العبيدي وعبد السلام الحشاني، عطية السرواخي.. وغيرهم كثيرون، ولقد ذكرت هؤلاء فقط لأنني كنت مسجونا معهم في سجن الكويفيه ببنغازي، وبالطبع كان هناك كثيرون منهم مسجونين بطرابلس.

منصور الكيخيا، آثر أن يبقى في الخارج، ويعلن معارضته لنظام القذافي الشمولي، ومن هنا كانت بداية الصراع السياسي بين منصور ومعمر

بعد أن تخلص القذافي من خصومه كلهم بالسجن أو بالإعدام، منهم 23 ضابطا من حركة المرحوم عمر المحيشي الانقلابية، وأيضا المرحوم عمر دبوب، ومحمد الطيب بن سعود، انطلق في تأسيس نظريته العالمية الثالثة بدءا من العناصر المحركة للتاريخ والدين والقومية، انتهاء بسلطة الشعب التي أعلنها في 2 مارس 1977 منهيا بذلك سلطة مجلس قيادة الثورة، معلنا أن القرآن شريعة المجتع، منهيا بذلك أي مشروع للدستور. ومع ذلك لم يلغ المحاكم المدنية ولا العسكرية، ولم يحكم بشرع الله كما أعلم، وإنما اتخذ "القرآن شريعة المجتمع" حجة أجمع عليها الليبيون كدستور دائم لهم، وبالتالي تم إلغاء الشعب الليبي كله، واختصر الوطن كله في شخصه، وسخر له زبائنه يديرون البلاد إداريا وهو، دون سواه، مرجعيتهم.

منصور الكيخيا، آثر أن يبقى في الخارج، ويعلن معارضته لنظام القذافي الشمولي، ومن هنا كانت بداية الصراع السياسي بين منصور ومعمر فانتهت بخطف القذافي له ليلة 11 ديسمبر في القاهرة ونقله إلى ليبيا، مسدلا الستار على حياة أخطر رجل على نظامه وحكمه الاستبدادي.

* الواقع ان إدريس المسماري وإدريس الطيب لم يكونا طالبيين جامعيين، واعتقلا، مع آخرين، في السبوع الأخير من سنة 1978. (المحرر).