Atwasat

تنويرية تحاط بالعتمة

عمر أبو القاسم الككلي الأحد 22 يوليو 2018, 10:51 صباحا
عمر أبو القاسم الككلي

لظروف معقدة، أو غامضة، تكتنف العتمة أحيانا أشخاصا مهمين، بل وفي غاية الأهمية. طبعا من وجهة نظر معينة. فما هو مهم، أوغير مهم، يخضع لاعتبارات التوجه الفكري والموقف الفلسفي العام لكل شخص. ومن هؤلاء الأشخاص المهمين (من وجهة نظر التنوير طبعا) الذين أحيطوا بستار من الإعتام، المفكرة التنويرية الرائدة أبكار السقاف.

ولدت أبكار السقاف سنة 1913 في مصر لأب من حضرموت هو محمد سعيد السقاف الذي كان منخرطا في الحركة السياسية في شبه الجزيرة العربية، واستفادت منذ فترة مبكرة من مكتبة والدها الغنية بالكتب التراثية. في الرابعة عشر من عمرها، سنة 1929، تقدم إلى خطبتها الأمير إدريس السنوسي، لكن المشروع لم يتم.

توفيت أبكار سنة 1989، وقد ظلت أختها ضياء، وهي فنانة تشكيلية، حافظة وحارسة لتراث أختها وسعت إلى إخراجه إلى النور

أواخر الخمسينيات قدمت في الإذاعة المصرية أحاديث بعنوان "ألوان من الفكر الإنساني"، وارتبطت بعلاقات صداقة مع أعلام العصر من المفكرين والأدباء، منهم عباس محمود العقاد وإبراهيم ناجي. وفي عام 1962 صدر لها أول جزئين من مؤلفها المهم "نحو آفاق أوسع" اللذين سرعان ما صودرا بسبب اعتراض الأزهر على محتواهما، وحسب د. سيد محمود القمني [https://www.youtube.com/watch?v=CKvbumDgky0] فإن عبد الناصر نفسه أمر بمصادرتهما وإحراقهما. توفيت أبكار سنة 1989، وقد ظلت أختها ضياء، وهي فنانة تشكيلية، حافظة وحارسة لتراث أختها وسعت إلى إخراجه إلى النور.

*
لم أكن قد سمعت باسم المفكرة أبكار السقاف. ولكن منذ سنوات وقع تحت نظري كتابها "الدين في شبه الجزيرة العربية" وهو الجزء الرابع والأخير في موسوعتها "نحو آفاق أوسع: المراحل التطورية للإنسان" التي تروي فيها رحلة الأديان بداية من القرن الخامس عشر قبل الميلاد في الهند ثم الصين وإيران، ومصر وبلاد الرافدين والعبريين، ثم الإغريق والرومان والمسيحيين، ثم شبه الجزيرة العربية.

لا أذكر الآن أين التقيت مع ذلك الكتاب. إلا أنني أذكر أنه لفت انتباهي فتصفحته قليلا ثم اشتريته. لكن، للأسف، حالت الظروف دون أن أقرأه، وإن كنت مررت على صفحات هنا وصفحات هناك منه. مؤخرا أتيحت لي فرصة قراءة كتابيها "الدين في الهند والصين وإيران" و "الدين في مصر والعصور القديمة وعند العبريين" وتمتعت في قراءتهما بمتعة المعرفة وما ينشأ عن ذلك من تفتح للذهن والمدارك.

ريقة أبكار في الكتابة لافتة، فهي لا تتناول مواضيعها بالطريقة التقليدية في التصدي لمواضيع الفكر والدين

طريقة أبكار في الكتابة لافتة، فهي لا تتناول مواضيعها بالطريقة التقليدية في التصدي لمواضيع الفكر والدين حيث الكتابة التي تتعمد الشرح الهاديء المتسق، وإنما يبدو أنها كانت تستهدف إنجاز أثر فكري- أدبي. لقد تعاملت مع موضوعها كما لو كانت ستكتب رواية. رواية تتحرك فيها الأديان على رقع جغرافية متداخلة ومترابطة، حتى وإن كانت متباعدة، فتدخل هذه الأديان [الشخصيات] في صراعات وتحالفات، وتتحايل على بعضها بالاحتواء والاندماج أو بالغلبة والإقصاء. ينهزم دين ما أمام دين آخر فيخلي الميدان ويختفي حتى يُظن أنه قد زال وانعدم، وإذ به ينبعث في خضم الحياة فجأة كالعنقاء من جديد. كل ذلك ضمن تدفقات التاريخ الحي للشعوب والدول وصراعاتها وتحالفاتها وإخضاعها لبعضها ومدها وجزرها. فالأديان والفكر الديني والفلسفات، ومجمل النشاط الثقافي، لا تتولد وتتحرك في فراغ.

هذا النزوع الأدبي في الكتابة التاريخية لدى كاتبتنا جعل قراءتها عملية غير مريحة وصعبة على القاريء الذي يبحث عن أسلوب الشرح المتئد الذي يأخذ بيده برحابة صدر. لكن هنا، مع أبكار، على القاريء أن يكون متقبلا لاختلاف أساليب الكتابة، وحتى لغرابتها، وأن يشغل كامل طاقات ملكاته الإدراكية، كي يحظى، فعلا، بلذة المعرفة ومتعة التفتح الذهني. القاريء هنا يواجه أسلوبا يعتمد كثيرا على المجاز والتخييل والتقديم والتأخير.

لا نرغب في إيراد مقتبسات كثيرة منها تؤيد ملاحظتنا. بل سنكتفي بمقتبسين فقط ليأخذ القاريء لمحة خاطفة عن أسلوب الكاتبة:
"إن هذه الأمة [الحورية] التي خضبت دنيا الشرق القديم بآثارها، نفسها قد خضبها من الآرية الخضاب فلقد أقبل العنصر الآري إليها سيدا محتفظا بتقاليده وعاداته فتشبهت، مسودة، بالسيد" (الدين في مصر والعصور القديمة وعند العبريين، مؤسسة الانتشار العربي، بيروت – لبنان 2004، ص110).
"شعلة إنما النفس في الجسم، إذا ما قضي قضيت!... إن هذه لحقيقة وعليها تأتي الشواهد والأدلة بأن النفس شعلة في الجسم وعلى الجسم ضعيفة الأثر والتأثير، فإن على سلطانها للجسم سلطانا، وإلا فأين تكون النفس وأين مكانها إذا ما أوهن الجسم مرض وأرهقته للدنيا صنوف آلام؟!" (الدين في الهند والصين وإيران، آفاق للنشر والتوزيع، القاهرة، 2017، ص 43).
هناك ملاحظة أخرى شكلية، وهي أن أبكار لا توثق مصادرها ومراجعها حسب التوثيق الببليوغرافي المتبع، وقد يكون هذا ناتجا عن أنها لم تجهز كتبها التجهيز النهائي للنشر، وعندما أقدمت ضياء على نشر أعمال أختها لم تتمكن من تتبع هذه المصادر والمراجع وتوثيقها حسب المعتاد.

لماذا لم تحظ هذه المفكرة التنويرية المتميزة والرائدة بما تستحق من اهتمام وإشادة؟

*
نعود الآن لنتساءل مع المتسائلين:
لماذا لم تحظ هذه المفكرة التنويرية المتميزة والرائدة بما تستحق من اهتمام وإشادة؟.
يرى البعض أن ذلك يعود إلى عدم نشرها كتاباتها في المجلات والصحف حينها وعدم مشاركتها في الحياة السياسية المصرية بحيث تصبح شعارا ويتجند لها مؤيدون.
لكنني أحب أن أضيف سببين آخرين:
أولهما أن أبكار، في حدود علمي، أول امرأة باحثة في الأديان المقارنة والفكر الديني، وكان الرجال الشرقيون يرون آنذاك أن هذا المجال رجالي، أو ذكوري بحت، لا علاقة للنساء به.
ثانيهما، أن الكاتبة لم تكن مصرية، ومصر حينها كانت مركز النشاط الثقافي العربي. فلو كانت مصرية لحدث، على الأقل، بعض الاهتمام بها ونالت نصيبا معتبرا مما تستحقه من اهتمام.