Atwasat

النفط الذى يجر ليبيا وينصبها

صالح السنوسي الخميس 19 يوليو 2018, 01:05 مساء
صالح السنوسي

عندما خرجت أول شحنة نفط من الموانيء الليبية في ستينيات القرن الماضي، دخلت ليبيا نادي الدول المصدرة للنفط وبالتالي دخلت في تصنيف اقتصادي وسياسي لن تخرج منه إلى أن ينضب النفط أو يستغني عنه العالم كطاقة محركة لمعظم أدوات الحضارة الإنسانية، فقد دخلت ليبيا باعتبارها دولة مصدرة للطاقة البترولية إلى أجندة القوى الكبرى المتصارعة على الموارد الاستراتيجية النادرة، ومن هنا فإن وجود ليبيا في النظام الدولي أصبح مشمولا بنظرتين، الأولى هي نظرة زبائن النفط الذين ينظرون إليها باعتبارها تاجرا يبيع سلعة تتميز بالندرة النسبية وهم في حاجة ماسة إليها، أما النظرة الثانية فتأتي من قبل القوى الكبرى المتصارعة على قيادة النظام الدولي واحتكار الموارد النادرة، فهذه القوى تنظر إلى النفط الليبي باعتباره ورقة وأداة لا يستهان بها في لعبة الصراع الاستراتيجي بينها.

هاتان النظرتان تمثلان حقيقة لا يجب تجاهلها وتقتضي من ناحية أخرى القبول من حيث المبدأ بمعادلة "أن النفط يمكن أن يجلب المنفعة كما يمكن أن يجلب الضرر" وأن ترجيح كفة المنافع على احتمالات الضرر يرتبط إلى حد بعيد بالأوضاع السياسية الداخلية، فعقلانية النظام السياسي خارجيا ورشده في تسيير الدولة داخليا وتمتعه برضى غالبية فئات المجتمع، يجعله أكثر قدرة على التعامل مع احتمالات الضرر والضغوطات المتدفقة من البيئة الدولية، وكلما اشتد الصراع بين القوى الداخلية وتشظت مؤسسات الدولة أو كان النظام السياسي غير عقلاني، فإن احتمالات الضرر تتحول إلى كارثة واحتمالات المنفعة تتحول إلى نقمة إلى الحد الذى يجعل الكثيرين يتمنون لو أن ليبيا لم تكن دولة بترولية، وهذه الأمنية العبثية لا تدل إلا على عجز العقل الليبي على إدارة ما منحته الطبيعة والصدف الجغرافية لليبيا من نعمة ليست جديرة بالتبرؤ والجحود.

ليبيا البترولية ليست هي الولايات المتحدة الأمريكية أو الاتحاد الروسي البتروليتين بل كغيرها من الدول النفطية الضعيفة المعرضة للأطماع الخارجية والصراع الداخلي

لقد شاءت قوانين الطبيعة وصدف الجغرافيا والتاريخ أن تكون هذه الرقعة في شمال أفريقيا منطقة نفطية فأصبحت حقيقة لا يمكن تغييرها لا بالعمل ولا بالتمنيات إلى جانب حقيقة أخرى وهي أن هذه الرقعة أصبحت دولة صغيرة ضعيفة كغيرها من عشرات الدول حسب المعايير التي تقاس بها اوزان القوى الفاعلة في النظام الدولي.

هاتان الحقيقيتان هما اللتان يجب ان تؤطرا العقلانية السياسية الليبية في إدارتها لشئون هذه الدولة داخليا وفي أفعالها وردود افعالها على ما تقوم به تجاهها قوى النظام الدولي من مواقف وافعال، فأي تجاهل لأي من هاتين الحقيقتين يعرض الكيان الجغرافي والسياسي لهذه الدولة للخطر. علينا ان ندرك أن نسبية السيادة السياسية والاقتصادية ليست موضوعا يتعلق بليبيا فقط بل يتعلق بجميع الدول ولاسيما تلك التي تتشابه أوزانها مع ليبيا في النظام الدولي، ولهذا فإن الإدارة العقلانية لشؤون الدول يقتضي المواءمة بين ما يشتمل عليه الإقليم من نقاط قوة ونقاط ضعف وأولها هو التوظيف الأمثل للموارد النادرة لكي تكون من نقاط القوة في سياستها الخارجية وقوة دافعة لاقتصادها الوطني بدلا من أن تصبح كعب أخيل الذي يمسك به من يريد أن يؤذيها ويطيح بها أرضا.

ليبيا البترولية ليست هي الولايات المتحدة الأمريكية أو الاتحاد الروسي البتروليتين بل كغيرها من الدول النفطية الضعيفة المعرضة للأطماع الخارجية والصراع الداخلي أكثر من شبيهاتها في الضعف والتي لا تملك موارد استراتيجية نادرة كالنفط، فلا شك أن النفط الليبي يمكن أن يتحول إلى خطر يهدد وجود الكيان الجغرافي والسياسي في ظل ظروف وصراع إرادات دولية إذا ما تضافرت معها صراعات داخلية وسياسات غير رشيدة، فهذا النفط هو بمثابة سلاح ذي حدين، حده الأول يتمثل في كون هذا النفط يمثل إحدى المصالح الكبيرة المشتركة بين الليبيين، لأن الجماعة التي لا توجد بينها مصالح مشتركة لا يمكن أن تتحول إلى شعب بالمعنى السياسي، فالنفط لا يلعب دور عتلة الاقتصاد الليبي وتنمية مصادره الأخرى، بل يلعب دورا سياسيا باعتباره إضافة قيمية كبيرة إلى مجمل المشتركات الأخرى بين أعضاء الجماعة ولعل تعبير "مصدر رزق الليبيين" بصرف النظر عن استخداماته السياسية، يوضح مدى حيوية وخطورة هذا المصدر بالنسبة لكل فرد في الجماعة كيف ما كان نصيبه منه، فالنفط لا تقتصر أهميته وتأثيره على الأجيال الحاضرة، بل تطال آثاره مستقبل الأجيال القادمة، لكن هذا الدور الإيجابي للنفط لا يمكن إنجازه إلا في ظل عقلانية سياسية تتعامل مع مخاطر النظام الدولي واستقرار داخلي كثمرة لسياسة رشيدة لا تعطي الفرصة للجهوية والقبلية بأن تستحل الوطن وتضع حدا لتغول المركزية باسم الوطن أيضا.

إذا أسئ التعامل مع النفط كسلعة استراتيجية وكمصدر لثروة وطنية توحد الليبيين، فإنه قطعا سيتحول إلى كارثة تتسبب في دمار الوطن

أما إذا أسئ التعامل مع النفط كسلعة استراتيجية وكمصدر لثروة وطنية توحد الليبيين، فإنه قطعا سيتحول إلى كارثة تتسبب في دمار الوطن، لأنه ينبغي علينا أن ندرك بأن وجود النفط في بلادنا جعلنا – شئنا أم أبينا- طرفا في لعبتين، إحداهما لعبة السوق بين الباعة والزبائن وهي ليست مجرد عرض وطلب في سوق للخضار أبوابه مفتوحة أمام الشاحنات التي تأتي من المزارع صباح كل يوم، بل هو صراع بين زبائن الكثير منهم أقوياء للاستحواذ على أكبر كمية بأقل تكلفة من مادة ماتزال حتى اليوم هي عصب حضارة القرن الواحد والعشرين.

في ظل التنافس والصراع فإن كل طرف لابد أن يسعى لأن يكون له تأثير ونفوذ على القوى الداخلية وفي حالة التشظي والصراع المسلح بين القوى الداخلية فإن كلا منها يبحث عن حليف دولي يمده بأسباب القوة فتتعدد خيارات التحالف أمام هذه القوى الدولية ولا تصبح "القوى السياسية" المتصارعة فقط هي موضوع هذه الخيارات، بل تتعداها إلى العصابات المنظمة التي يمكن أن تكون أداة ومخلب قط لا يحتاج إلا لتقوية دابره لينتزع لمموله وحليفه مكانا على خارطة الصراع الداخلي، وعلى هذا المنوال وطبقا لهذه الآلية يتدحرج هذا الصراع مهما بلغ حسن نوايا بعض أطرافه، ليصبح لعبة بين أيدى القوى الدولية المتصارعة على موازين وأحجام مصالحها، والتي قد تقتضي مصالحها في مرحلة من مراحل الصراع بأن تتفق على تثبيت هذه المصالح على الأرض في شكل كيانات وحدود دولية وأعلام وأناشيد وطنية وسيادات وهمية.

إذا ما اتفقت مصالح هذه القوى وآزرتها ظروف دولية مواتية، فإنها لاشك لن تعدم الأدوات الكفيلة بإنجاز مثل هذا المشروع التقسيمي، فستجد أمامها القبلية التي تغازل الجهوية والمناطقية وستجد الفيدرالية التي تغازل التقسيم وتجد أمامها أيضا مركزية تتدثر بأسمال وطنية للحفاظ على ما تعتبره مكتسبات جهوية. كل هذه الأسلحة والأدوات، بل بعضها فقط يكفي لجر عربة الصرع الانتحاري على النفط إلى تفجير الوطن إلى عدة أشلاء وكيانات عدمية ولن تكون ثلاثة فقط.

حضور النفط كأداة في لعبة الصراع الاستراتيجي لا يقل خطورة على لعبة الزبائن الاحتكارية

إن حضور النفط كأداة في لعبة الصراع الاستراتيجي لا يقل خطورة على لعبة الزبائن الاحتكارية. فالولايات المتحدة – على سبيل المثال- ليست زبونا للنفط الليبي بنفس أهمية الزبائن الأوربيين، ولكنها في إطار استراتيجيتها الكونية قد تدخل في صراع مع قوى وفواعل دولية يجعل من النفط الليبي بالنسبة إليها ورقة لا يمكن الاستغناء عنها في هذا الصراع وبالتالي لا تسمح بأن يكون تدفق هذا النفط إلى الأسواق أو عدم تدفقه يخضع لتأثير القوى المتصارعة معها أو يصب في مصلحة تلك القوى فقط، وفي مثل هذه الحالة فإن العقلانية السياسية توجب على متخذي القرارات الليبية المتعلقة بالنفط ألا يندفعوا – مهما بلغ صدق مبرراتهم ونواياهم- باتخاذ تلك القرارات على ضؤ الصراع الداخلي فقط دون اعتبار للصراعات الدولية التي تجري حول هذا النفط والتسليم بأن النفط الليبي جزء من لعبة الاستراتيجية الدولية، التي ينبغي التعامل معها بحذر حتى لا تبدو القرارات الداخلية وكأنها اصطفاف غير مدروس ضد مصالح قوة عظمى لا يستطيع الكيان الليبي الهش تحمل ردات فعلها الغاشمة.

النفط هبة وضعتها الطبيعة بين أيدى الليبيين وهولا يتحول إلى نعمة أو نقمة إلا بفعل تصرفاتهم ونظرتهم إليه وتفهم خطورته ومنفعته، فلا يمكن أن يتحول إلى نقمة إلا في ظل الصراع الداخلي وعدم الاستقرار أو في ظل نظام غير عقلاني في مواجهة الخارج، غير رشيد على الصعيد الداخلي، فبقدر ما يكون هذا النفط عنصرا فعالا يقود الليبيين إلى التنمية ويقوي من تلاحمهم، بقدر ما يمكن أن يكون أداة تمزق كيانهم وتفرق جمعهم رغم ما بينهم من مشتركات وروابط عضوية.