Atwasat

تجرثم.. تحوصل وكمون

صالح الحاراتي الثلاثاء 17 يوليو 2018, 10:22 صباحا
صالح الحاراتي

مرت هذه المصطلحات العلمية بذاكرتى وأثارت فى عقلى مقاربة لهذه العمليات الحيوية التى تحدث فى الأحياء الدقيقة.. وتساءلت: هل على نفس المنوال تحدث نفس تلك العمليات في عالم الإنسان!؟

وبشيء من التأمل، ولأجل محاولة معرفية وتوصيف علمي، راجعت شيئا مما درسته فى الطب وذهبت إلى بعض المواقع العلمية لشرح المصطلحات والتعرف على معناها باختصار، لكي أرى مقاربتها مع عالم الإنسان.. فوجدت "أن التَجَرثُمَ عملية تتم بتكوين حبيبات داخل الخلية تكبر في الحجم متحولة إلى جرثومة ذات جدار سميك، وبعد فترة تتكون الجرثومة، وتتملك خاصية تجعلها تتحمل الجفاف والحرارة والظروف غير المناسبة، وعند تحسن الظروف البيئية تعاود الحياة وتنبت الجرثومة معطية خلية بكتيرية جديدة".

أما بخصوص عملية التحوصل فهي تقترب من سابقتها. (قيام الميكروب بإحاطة نفسه بغلاف سميك مكونا ما يسمى بالحوصلة وذلك بالطبع في الظروف غير الملائمة مثل نقص الغذاء والرطوبة والأكسجين، أو عدم ملاءمة درجة الحرارة، وعملية التحوصل هذه تعطي فترة زمنية أطول للكائن للبقاء حيا وتساعده على العيش خارج جسم العائل الذي يتطفل عليه حتى تسمح له الظروف بالعودة إلى جسم العائل فيخرج من الحوصلة ويعيد دورة حياته. وهو أمر قريب فى مغزاه من التجرثم.

أما العملية الثالثة، وهى الكمون، فلا تختلف فى جوهرها فهي (كمون الفيروس وقدرته على البقاء ساكنا داخل الخلية، حيث يتوقف خلالها إنتاج الفيروسات. ولكنه باقٍ وموجود وعندما تكون الظروف مواتية، يمكن للفيروس بعدها أن يستعيد نشاطه ويبدأ بإنتاج كميات كبيرة من سلالة الفيروس دون الحاجة للإصابة بفيروسات خارجية من جديد.).

فى مقاربة مع عالم الإنسان يبدو لي أن هناك علاقة بين التجرثم والتحوصل والسلوك الإنساني

فى مقاربة مع عالم الإنسان يبدو لي أن هناك علاقة بين التجرثم والتحوصل والسلوك الإنساني، وهو أمر حقيقي، بل صرت أعتقد أن لا ضير من استخدام اللفظ للتعبير عن حالة التجرثم والتحوصل الإنسانية، حيث نجد فى قاموس اللغة: تَجَرْثَمَ الرَّجُلُ أي انقَبض ولزم موضعه.. وأذكر هنا إسقاطا "جماعة كهوف تورا بورا وجماعة التكفير والهجرة" وانعزالهم عن المجتمع بحجة المفاصلة للمجتمع الجاهلى حتى تقوى شوكتهم ثم يعودوا ليغيروه كما يظنون... يتحوصل الفرد منهم على ذاته وينزوي حول نفسه ويفاصل المجتمع ظنا أنه على الصواب المطلق حتى إذا اعتقد أن الظروف مواتية خرج للمجتمع بسيفه أو بحزامه الناسف.

نأتي بعد ذلك إلى عملية الكمون.. في اللغة (كمَن الشّخصُ في مكان أي اختفى وتوارى في مكان لا يَفطن له أحد، وكَمَنَ الرجل غَيْظَهُ أى أَخْفَاهُ).. وبدا الأمر لي وكأنه تعبير عن العبارة الشهيرة "الخلايا النائمة" باعتبار ذلك أقرب مثال للمقاربة مع عالم الإنسان.

إن التحوصل والكمون والتجرثم يحدث بشكل مشابه فى عالم الإنسان. والواقع يشهد بذلك.. وهنا يأتي السؤال، هل كل تجرثم وكمون وتحوصل في عالم الإنسان هو أمر سيء،وهل الكمون والتحوصل ذلك ينطبق على من يمارسون "التقية "!!؟

هل كل كمون وتحوصل وتجرثم بشري يأتي بتأثير البيئة المحيطة بالإنسان أم يمكن أن يكون بإرادة واختيار داخلي ذاتي؟

ما أثار هذه المقاربة وما مغزى البحث فى هذا الأمر مع ملاحظة أنني لا أقصد هنا العزلة الاجتماعية التى تبدأ باختيار الشخص البقاء بمفرده بعض الوقت، للتامل أو إنجاز عمل ما أو بسبب تعرضه لصدمة أو موقف معين أثر فيه سلبيا، كفقد عزيز لديه مثلا.. ولكن توارد هذه الخاطرة جاء بعد سؤال مهم هو... أين يذهب المتطرفون بعد اندحارهم وهزيمتهم واختفائهم عن الأنظار؟ لقد هزمت داعش في العراق وسوريا وليبيا، ولكن هل يعني هذا انتهاء ذلك الفكر التكفيري الداعشي الذي يسيطر على تلك العقول؟. أم أن مآلاته ستفضي إلى الكمون والتحوصل والتجرثم ثم يعود للعلن عندما تناسبه الظروف؟.. في ظني أن هذا ما يحدث وسيحدث ويستدعي منا البحث فى كيفية انتزاع هذا الفكر التفكيري من منظومتنا الثقافية وتغييبه عن العقل الجمعي حتى لا تكون له حاضنة يوما ما، ويعيد استنساخ نفسه بقالب جديد وبنفس المحتوى.. قد تتغير مسمياته ولكنه قائم والغافلون لا زالوا كثرا ويظنون أن أولئك المرضى أناس طيبون "يريدون شرع الله"!!

نعم داعش هزمت ولكنها لم تنته، حدث ذلك مع القاعدة ومع كل الأفكار. الشاذة والمتطرفة

نعم داعش هزمت ولكنها لم تنته، حدث ذلك مع القاعدة ومع كل الأفكار. الشاذة والمتطرفة.. هزيمة ذلك التطرف والإرهاب لن تتأتى في بلادنا ليبيا بسهولة، فنحن نعاني من تصحر الفكر التنويري وغياب العقلانية وسطوة العاطفة الجياشة مما يخلق بيئة خصبة لإنتاج الكثير من "القتلة الدواعش" ولعلنا لاحظنا كيف يتحوصلون ويكمنون تحت مسميات جديدة ويرتدون الأقنعة، تحت مسميات عديدة (مجلس شورى) (قوة حماية) وما إلى ذلك، لكن ما تحتويه عقولهم يبقى تكفيريا كما هو، ولا سبيل أمامنا لكشف كمونهم وتحوصلهم إلا بانتزاع ذلك الفكر من منظومتنا الفكرية الموروثة، وذلك بالفكر والعلم والثقافة والتوعية والجرأة على قول الحقيقة، والمطالبة بالحريات والتأكيد على حرية الضمير وعدم القبول بمنطق الإكراه والوصاية على الناس تحت أى مبرر.