Atwasat

نحو فهم أنضج للتاريخ

عبد الكافي المغربي الثلاثاء 17 يوليو 2018, 10:17 صباحا
عبد الكافي المغربي

تدعي فلسفة التاريخ التي لا تلتبس مع الرؤية الماثلة في تصورات العناية الإلهية أن حركة التاريخ تقدمية حتمية، تنطوي على قوة كأن المحرك الأول ابن أرسطو لا يدانيها في السلطان وطول اليد، وإذا كان التاريخ يمضي متباطئًا، استنادا إلى ما نفهمه نحن عن حساب الوقت، فإن التاريخ يؤكد بما لا يترك مجالا للشك أن الوقت لا ينزل في حسابات التقدم الذي هو روح التاريخ إلا كما ينزل في قصص العفاريت وأعاجيب الليالي العربية التي كانت تلقى إلينا في حداثتنا.

والقوى التاريخية التي أنهضت قانون الطبقات ووهبت قلة محظوظة ما ينهزون به الفرص ويحكمون به الأراضين، وحَرَمت بقية كثيرة ما يحفظ عليهم أنفسهم ويتيح لهم حظًا من السعادة ولو متواضعًا، التي أبدعت فأفْنت الغزاة في عِداد المنبوذين والأقنان وجعلت فوقهم من ذلوا في ميدان القتال، تلك القوى ما زالت تلهو بالإنسان مَلِكِ الأرض، فتُدخِله في طور من حيث تخرج به من غيره، ثم ترى رأيًا فتعيده إلى أول أطواره. وإن لم تكن هذه القوى ملموسة فحسب الأديب أن يعريها من إمعانها في التجريد المستحيي، ويكفي المتفلسف أن يحملها على الملاءمة بين ذاتها وبين أفكارنا الفطرية عن الله وأفكاره المستفادة عن العقل.

لقد أقام العرب حضارتهم بتشجيع بثه النبي الهاشمي، وعلى عمد مضطربة أسسها النزاع الناشب بين المعرفة الغنوصية والمسيحية الشرقية والفكر اليوناني العقلاني

وإن لم نكن واقفين على جلية غاية هذه القوة، إذًا من الطيب أن نوجس في أنفسنا منها ريبة، فلما كانت تجِّد السير في تقدمها كأنما جزعت مما دأبت عليه من استهانة بالوقت وتمهل في تغيير وجه الحياة، إذ تتلطف معنا كأنما رانت أخيرا إلى سباتها، وآذن التاريخ بالنهاية. غير أن مَثَلَها كمَثل الصحراء، غَرّارة، لا تكاد تستنيم إليها وتحب منها هدوء روعها وتتأمل جلال امتدادها إلا ريثما تلفظ الكُتَلَ من الرمال من قدامك ومن ورائك، فتُهلك من تُهلك، وتضَيِّع في مجاهلها من تضيِّع.

لقد أقام العرب حضارتهم بتشجيع بثه النبي الهاشمي، وعلى عمد مضطربة أسسها النزاع الناشب بين المعرفة الغنوصية والمسيحية الشرقية والفكر اليوناني العقلاني، ذلك الاضطراب الفكري الذي اكتنف المنطقة قبل حلول الإسلام فيها، وطبَعها بالطابع الذي سماه المؤرخون الهلنستي. وكان للحضارة العربية فلسفتها كما كان لها لاهوتها، وطلبَهم الازدهار وأرادتهم المَنَعة فكانوا ملوك الدنيا، حتى غلبهم أمراء المغرب على أمرهم، وعبروا العُدوة إلى النصيب العربي من أوروبا في أفواج كانت تترى فتُخضع العرب وأمراء الشمال، وتخنق الحضارة الإسلامية في الغرب خنقًا. ثم كانت كلمة القضاء في حضارة المشرق المتنوعة باضمحلال بغداد، قبل قرنين من سقوط الدولة في أعقاب حملات المغول، آخر ما لفظ الشمال من غزاة.

وغط العرب فأسرفوا في الغطيط، ووجدوا لذة النوم التي تجدها الحضارات بعد انقضاء نهارها كله في التأمل والتفكير وكتابة الأدب وإقامة شواهد الفن، فاستكانت للذتها وأمعنت، وأسلمت قيادها لجلاوزة الترك يسوطونها بِسَوط العذاب، وللخواء العقلي يصور إليها أحلاما ناعمة. فلما داهمها الفرنجة الذين استيقظوا فبعُد بهم عهد اليقظة، حاولت أن تدنو من الحضارة البيضاء الخلابة، وتبصر إلى أسرارها التي غلبت بها على العالمين. أفرزت المحاولة العربية فكرا وأدبا وفنا يتجلى فيه التأثير الأوروبي فلا يكاد يُحْدِث شيئا، على أنه سحري رائع. وما لبثت الحياة الثقافية في مصر ولبنان أن اعتَوَرها الاضمحلال كما اعتور البلاد العربية التي أحاطت بها الانقلابات وتغوَّل فيها الطغاة، وليس من أمة أحاط بها بعض هؤلاء وكان الازدهار من حظها.

وبعد استيقاظ العقل الغربي، فنفْضِه عن أجفانِه كَرى القرون الطوال، لم ينشط إلى إبداع النهضة في اليونان بل فيما يليها من البحر إلى ناحية الغرب. وقامت الحضارة الأوروبية في بادئ عهدها على تشوش من الفلسفات التي أبلتها الآماد ومعالجة العقول المتباينة، التي كانت تقرأُها لإثبات عقيدة أو لنفيها، لا لتحقيق اليقين المعرفي. ولما أن قاربت حضارة الغرب النضج الكامل شبت الحرب بين الطبقة الوسطى التي كانت تخلق الفكر وتُبْدِع الآداب، وطبقة النبلاء العتيدة التي انقسمت على نفسها وهان أمرُها، وقد أُفلِت من الدين في أثناء الثورة الفرنسية وعلم من أمره أنه لن يكون له شأن في هذه البلاد. ومن ذلك أن الفصل المرعب من تاريخ الثورة الفرنسية لم يكتبه رجال الدين المرتاعون ولو من قبيل الدفاع عن النفس، وإنما مَثَّله اليسار الملحد الذي يريد للفرنسيين أن يكونوا أمناءَ على الأيديولوجيا الحديثة كما كانوا جُندًا للمسيح في الحملات الصليبية.

وتعاقبت على أمم الغرب أطوار من التقدم والنكوص على امتداد القرن التاسع عشر

وتعاقبت على أمم الغرب أطوار من التقدم والنكوص على امتداد القرن التاسع عشر، ثم فُجع العقل الأوروبي في يقينه باطراد التقدم بعد قيام حرب القياصرة التي لم تضع أوزارها إلا ليفصل نهر متجمد من الحقد بين عالمين لا يمكن مصالحتهما، ثم حولت أكبر الحروب أوروبا من حضارة منتجة إلى مدنية مستقرة، وعاد فقام معسكران لا يمكن مواءمتهما، تفصل بينهما فيينا وبرلين.

إن الحركة التاريخية شخصية وعامة في وقت واحد. هي شخصية لأنها تلم بالأمم فرادى وتتباين أوقات إلمامها من حضارة إلى أختها، فتطبع فيها آثارها وتتولى عمن خرجت من ملعب التاريخ. وعامة لأن تأثيرها يظل متماثلا، ويصب في غاية واحدة من حيث بدأ التقدم.
ويخيل للناظر في الحضارة الغربية إذ استحالت مدنية مستقرة أنها قد بلغت من تاريخها نهايته، وأنه ليس ثمة تقدم يرجى من وراء ما حققت من نظام مثالي بالقياس إلى النظم البالية التي تقوم في أجزاء أخرى من الأرض. وللإنسان العذر كل العذر في أن يطمح إلى الإحاطة بالنهاية، إن كانت أعجزته المعرفة بحياة الفناء أو أعياه أن يجد إلى الاعتقاد بالنشور يقينا فلا أقل من أن يلمس نهاية تاريخه. وقد طرح المفكرون وأبرزهم كارل ماركس نظرياتهم في نهاية التاريخ، وكانت تبدو معقولة، لولا أنه ما كادت تنقضي على وفاة صفيه إنجلز عشرون عامًا حتى دمرت الشيوعية البلشفية إقطاعية القيصر، فكانت أول نقض للفلسفة الماركسية التي تنبأت بحلول الشيوعية محل رأسمالية الغرب.

وقد أسلفنا أن القوى التاريخية لا تحسب الوقت كما يحسبه الإنسان، وكان للإقطاعية، وللدين، أن يحكم كلاهما الأرض آلافا من السنين قبل أن تعصى البرجوازية أسيادها ويغضب العلم لما لحق به من ظلم. وما زالت تقوم بيننا وبين الوعي بتقدمية التاريخ وبغايته سُجُف صفيقة وحُجُب غليظة، وحين خيل إلى العربي أن التغيير الديمقراطي قادم إذا ما ترافق مع تنوير وتجديد غير مشروطين، ضاق المفكرون الغربيون ذرعًا بأزمات العالم وبالنظام القائم، فبشر بعضهم بيوتوبيا الحكومة العالمية التي لم تكن إلا عنوانًا لوصاية القوى الغربية على العالم، وحمد بعضهم لفرانكنشتاين النووي ضنه بالسلم وضبطه لغرور البشر، واستشرف آخرون عالمًا تديره القوى الاقتصادية المتمثلة في الشركات الجشعة. ولا شك أن التاريخ متقدم برغم المتكرهين، والواقع أن مشاهد الرعب فيه آخذة بالتناقص في تقدمه الواثق. ومن يدري فقد تصدُق فلسفة ماركس ولو بعد ألف سنة من حكم الشركات، وقد تقوم الحكومة الطوباوية فيرضى عنها الناس أجمعهم، أو قد تقضي قنبلة مدمرة على ما يستقبل الإنسان من تاريخ متجدد، فتعود المادة عماء أو تبدأ دورة التطور من الصفر الذي بدأت منه قبل مليون عام.