Atwasat

شموسٌ كشمسه

محمد عقيلة العمامي الإثنين 16 يوليو 2018, 10:15 صباحا
محمد عقيلة العمامي

ما إن رأيت الدمار الذي لحق بشارع العقيب، حتى تراءت لي أطياف وجوه سكانه الطيبين؛ هنا كان سالم بن صويد، مختار المحلة يستقبلنا بدفء ابتسامته ليوثق لنا شهادتنا الإدارية، ومن هنا يلتف عبد السلام بوسن بجرده الأبيض، متجها نحو دكان عوض التركي، وجمعه بن هلوم، وخليفة البابور، ومصطفى بوجازيه، حامد الحضيري.. فتحي باقو، وكريمش، ودومه، ومنصور الزغبي، وها هو ناصر الكيخيا، ومن خلفه محمود، ومن خلفهم سي سعد الله يتوعدهم من أمام محل سي محمد الفاخري. يتولى الله من رحل منهم بواسع رحمته، ويمتع الأحياء بالصحة وطول العمر.

يا إلهي. لم يعد في مدينتي مكان واحد لعبادتك!

وعندما وصلتُ أطلال جامع العقيب تذكرت ذلك الألماني العجيب (نوردوف) فتمتمتُ مثلما قال: "يا إلهي. لم يعد في مدينتي مكان واحد لعبادتك!". مدينته هي (ولفزبرج) كانت أطلالا مثل شارع العقيب وبقية شوارع بنغازي القديمة، وكان من عاد من سكانها إلى شارعه وجده مجرد خرائب تتسكع فيها الأشباح، أما العشرة آلاف من سكان (ولفزبرج) الذين عادوا إليها تكدسوا بالعشرات في ثكنات خشبية، يسرح فيها القمل والصراصير وتمرح فيها الجرذان العملاقة. كانوا لا يحصلون على ما يكفيهم من طعام، أو خرق يسترون بها أنفسهم، فالمدينة دكتها تماما قنابل الحلفاء. كان ذلك في يناير سنة 1948 أي بعد انتحار هتلر بعامين و245 يوما بالتحديد.

كان الفقر والبؤس يتسكعان في شوارع المانيا كافة، ولكنهما اتخذا مدينة (ولفزبرج) سكنا لهما إلى أن وصل إليها ذات يوم (هر هاينز نوردوف) فأحالها في زمن قياسي إلى مدينة متكاملة، فأُقيمت مكان الأكواخ الخشبية مبان لم يتعدى ارتفاعها أكثر من أربع طوابق، وفيما تغرد العصافير الملونة، في شرفاتها تتراقص الورود والزهور. وتمتد المساحات الخضراء بين هذه المباني الحديثة. لقد أصبحت سكنا لعمال يتقاضون أعلى أجر يكسبه عامل في ألمانيا كلها وانتشرت المدارس والكنائس والأسواق والمطاعم ودور الترفيه، والحدائق ومساحات لألعاب الأطفال، ناهيك عن مستشفيات ومستوصفات متكاملة. فلقد أصبح بالمدينة، سنة 1956، عشرون ألف عامل في مصنع (الفولكسواجن) فقط ينتجون يوميا نحو ألف سيارة، بعدما كانوا ينتجون قبل الحرب 20 سيارة فقط.

لقد تحقق ذلك من بعد أن أعدّ (نوردوف)، ذات مساء يوم بارد من أيام يناير سنة 1948، لنفسه سريرا بمكتبه بالمصنع وأقام فيه، ومن ذلك الوقت أخذ المصنع يتطور باضطراد. حتى وصل هذه السنة -2018- إلى أكبر مصنع في العالم وأن ثلاثة من موديلاته ستحتل المراكز الأولى عالميا في التوزيع.

بمجرد أن بدأ المصنع في الإنتاج، أسس سياسته على إعمار المدينة، فمما حققه من مكاسب كان يخصص منها قروضا طويلة المدى وبدون فوائد لمجلس المدينة، الذي لم يصله لص ولا مخادع ولا متسلق، ووفر لكل عامل يمضي سنة يعمل بإخلاص حقا في قرض بدون فوائد لبناء مسكنه.

ما لم يعرفه الناس أن مصنع (الفولكسواجن) تُستقطع من أرباحه 4% فقط تُدفع لمن يسمونهم أصحاب المصنع، وتديره جمهورية ألمانيا بمجلس يتكون من 19 عضوا يمثلون الدولة وهيئة إدارة المصنع والعمال. بنغازي وسرت؛ تحتاجان إلى مواطن ليبي مثل (نوردوف) يعشق بلاده، وينتمي إلى مدينته، ولا يفكر في شراء قصر لزوجته وبناته في لندن. إنسان يؤمن أننا مجرد كلمات في سجل تاريخنا، وستظل الكلمة الرديئة قبيحة حتى إن كتبت بماء الذهب، وتظل الكلمة الطيبة باقية ومبهجة حتى وإن كتبت بمداد ألواح كتاّب من كتاتيب بنغازي التي ظلت منارات تخرج منها رجال كُثر، لم ينس الناس لا أسماءهم ولا أفعالهم الطيبة، قد يكون المرحوم عبد الحفيظ شمسه، قد تعلم في كتاّب جامع الحدادة، فأنا أعلم أنه رحل سنة 1991 ولكنني لا أعلم شيئا عن طفولته أو شبابه، فنحن نبخل على رجالنا الوطنيين حتى بتكريمهم بتسمية شوارعنا بأسمائهم، ناهيك عن الحديث عن مآثرهم لأطفالنا. ولكنني أعلم أنه من تجار ورجال الصناعة المبكرين، ساهم في تأسيس مدرسة العمال الليلية، وأنه لم يغب عن مناشط المجتمع المدني في بنغازي. غير أن أفضل وأبرز مأثرة في تقديري، هو قيامه بإرهاصات مبكرة لتأسيس ما عرفناه حديثا بالأسرة المنتجة.

ما لم يعرفه الناس أن مصنع (الفولكسواجن) تُستقطع من أرباحه 4% فقط تُدفع لمن يسمونهم أصحاب المصنع

من بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، التي تركت بنغازي مجرد أطلال مدينة، يعبث باتساعها الجوع الكافر والفقر والبق والقمل، قام حينها المرحوم عبد الحفيظ شمسه بالبحث عن الأسر الفقيرة، يزودها بآلات الحياكة ويبعث لها بالقادرات على تعليم استخدامها، ثم يزودهم بالقماش والسلك ويشتري منها ما تنتجه ويبعه بمعرفته. ففي ذلك الوقت كان لباس الرجال لا يتعدى (سروال وسورية بيضاوين)، وقبعة بيضاء (المعرّقه)، ثم أسس مصنعا لصناعة الحقائب من الجلد، فلم يعد دباغو الجلود يبحثون عمن يصدر إنتاجهم. مثل هذا الرجل هو ما تحتاجه بلادنا لإعمارها، وبلادنا ولادة ورجالها قادرون على تحقيق مثل هذه المشاريع، فالإعمار الحقيقي هو إعمار الإنسان قبل المكان.

نسيت أن أقول لكم أن جامع شارع العقيب أقيم على أرض يملكها آل الدرفيلي، وفي منتصف السبعينيات أعاد الشيخ المرحوم محمد على بسيكرى بناءه من بعد أن صممه بشكله الحالي المهندس نجيب مازق. ذلك يعني أن عمار البيت يتولاه أهله، وكذلك الشارع، تماما مثلما يتولى أبناء المدينة عمار مدينتهم، أما عمار الدولة فيحتاج إلى رجال يؤمنون بالله والوطن ويحترمون تاريخ أسرهم ويعون جيدا أن "الصيت أطول من العمر".