Atwasat

منصور رشيد الكيخيا شيخ قضايا الاختفاء القسري (7) محاولات المبعوثين الكبار

محمد المهدي الفرجاني الخميس 12 يوليو 2018, 01:24 مساء
محمد المهدي الفرجاني

قبل أن أتحدث عن الأيام التي قضاها منصور الكيخيا في القاهرة بفندق سفير، أرى أنه من المفيد إلقاء الضوء على محاولات نظام القذافي الرامية إلى استدراجه إلى العودة إلى ليبيا، وبمقدوركم أن تعتبروها استدراجاً للحضور، أو محاولة لإقناعه بالتخلي عن موقفه المعارض والرجوع إلى أرض الوطن.

في تلك الأثناء، وفي ظل النظام الجماهيري، كان القذافي يقول إن من حق أي مواطن أن يعارض النظام الجماهيري، وينتقده ولكن يجب أن تكون تلك المعارضة، وكذلك النقد، من داخل المؤتمر الشعب الأساسي؛ أي من داخل ليبيا ـ متحججاً بقوله إن أي شخص ليبي يعارض النظام الجماهيري وينتقده من الخارج، فهو لا يكون معارضاً بل عميل لمخابرات أجنبية، وبالتالي وجبت محاربته ومطاردته ولو كان في القطب الشمالي!

لم تفهم المعارضة خطاب القذافي المنقول مباشرة إلى العالم، لم تعي جيداً ماذا يقصد عندما قال إنه سيطارد «الكلاب الضالة»

لم تفهم المعارضة خطاب القذافي المنقول مباشرة إلى العالم، لم تعي جيداً ماذا يقصد عندما قال إنه سيطارد «الكلاب الضالة»؛ هكذا كان يسمى معارضيه، الذين لم ينتبهوا أن مطاردة الكلاب الضالة تعني قتلها وهي غافلة! لقد أكد مطاردتهم وتصفيتهم جسدياً ولو كانوا في القطب الشمالي. المعارضة لم تدرك أن القذافي في حربه معهم لن يعترف بالحدود الدولية، ولا بمساءلة السيادة فيها، بل سوف ينتهكها ويحقق بالفعل تصفيتهم: لقد تم اغتيال صالح بوزيد الشطيطي في أثينا، ومحمود نافع في لندن، والمهدوي في ألمانيا، والرتيمي في روما، وضف إلى ذلك محاولة اغتيال فيصل الزقلعي في أمريكا، وعبدالحميد البكوش في القاهرة؛ لقد انتقينا هذه النخب كأمثلة فقط، ونتج من ذلك وصف ليبيا بالدولة الراعية للإرهاب، وفتحت أبواب التحقيق في عدد من العمليات المرعبة: تفجير طائرة (البان أم) الأمريكية فوق قرية (لوكربي) الأسكتلندية، وبار برلين.

لقد أصبحت دولة ليبيا إرهابية، ومواطنوها إرهابيين، ونتج من ذلك سوء معاملة العالم كله لحاملي الجوازات الليبية، ثم طبق حصاراً طويلاً، ولكنه لم يضعف لا القذافي ولا نظامه، ولكنه أرهق المواطن الليبي بشكل مخيف، إنه فقط، من دفع ثمناً باهضاً لأخطاء وتهور القذافي.

وصل العبث بالنظام درجة جعلت أي مواطن يريد أن يقوم برحلة سياحية على نفقة الدولة، يقترب من مسؤول أمني، ويعرض عليه قدرته على إقناع بعض من معارفه، ممن التحقوا بالمعارضة من التخلي عنها والعودة به إلى أرض الوطن. فلم تبخل الأجهزة عليه لا بالنقد الأجنبي، ولا بتذاكر السفر، مع حزمة من جوازات سفر ليبية مختومة وغير مكتوبة لمنحها لمن يقنعه بالعودة إلى ليبيا. كثير من الناس قاموا بمثل هذه الرحلات وتسلموا نفقاتها، ولم يعد معهم معارض واحد له وزنه، أو معروف، وخير مثال على ذلك ما حدث مع عبدالسلام بالتمر.

وصل العبث بالنظام درجة جعلت أي مواطن يريد أن يقوم برحلة سياحية على نفقة الدولة، يقترب من مسؤول أمني

ولكن في الوقت نفسه، اتبع نظام القذافي تكتيكاً جديداً، وهو تكليف بعض من رجال الدولة بالاتصال ببعض رموز المعارضة في الخارج ومحاولة إقناعهم بالعودة إلى الوطن، أو في الحد الأدنى إقناعهم بالانسحاب من المعارضة. من أبرز رجال النظام الذين كلفوا بالاتصال بالمعارضين وتقديم الضمانات كافة لأمنهم الشخصي منهم: العقيد يونس بلقاسم، العميد أحمد الغزالي، والعميد عبدالرحمن الشايبي، والعقيد عمر قويدر، وعلى النايض، والسفير عاشور قرقوم، والمهندس جاد الله عزوز الطلحي، ويظل أبرزهم العقيد أحمد قذاف الدم. هؤلاء في الواقع نموذج محترم لمن كلفوا بهذا الموضوع، وقد نجح بعضهم بإقناع بعض المعارضين الحقيقيين، أو المحسوبين على المعارضة ظلماً.

ويظل منصور الكيخيا أبرز المعارضين الذين أفرد لهم القذافي مساحة واسعة من الاتصالات، فلقد ذهب إليه عاشور قرقوم، سفير ليبيا في بلجراد، وتمكن من مقابلته مرتين في باريس، وعرض عليه الرجوع إلى ليبيا مع كامل الضمانات الأمنية، إلاّ أن منصور اشترط عدة أشياء يتعين أن تتحقق أولاً: وهي أن يرجع العسكر إلى ثكناتهم، وأن يلغي ما يعرف بسلطة الشعب وأن يعد دستوراً حقيقياً للوطن بدلاً عن الاختفاء وراء شعار: «القرآن شريعة المجتمع»، وأن تقام انتخابات عامة تفرز مجلساً للنواب، ومنه تنبثق حكومة وطنية، ثم الدعوة لانتخابات مباشرة لرئيس للجمهورية، وأن يسود حكم القانون مع ضمان حريات الفكر والرأي والمعتقد، وتنتهي انتهاكات حقوق الشعب والزج بهم في السجون والمعتقلات لسنوات طويلة من دون حكم محكمة، وأن يكون الجميع شركاء في الحكم والإدارة.

كانت شروط منصور الكيخيا شروط إنسان حالم، والقذافي وضع نظرية عالمية ثالثة حدد فيها العوامل المحركة للتاريخ. أصبحت له رؤية ثالثة تأتي بين الرأسمالية والماركسية، واستحدث نظرية سلطة الشعب المتمثلة في لجان ومؤتمرات شعبية أساسية تنتهي كلها في مؤتمر الشعب العام. ثم استحدث جهة رقابية إرشادية هي اللجان الثورية بحيث تكتمل نظريته السياسية في قيادة الدولة، وأصبح قائداً للثورة دون صلاحيات تنفيذية أو إدارية، فالشعب يدير شؤونه من خلال مؤسساته الشعبية، بلجان تنفذ ومؤتمرات شعبية تقرر!! رجل وضع نظرية النظام الشمولي في بلده، فهل هو في حاجة إلى منصور الكيخيا، أو غيره من رجال المعارضة؟ إن أي رجل ثائر كالقذافي ماذا يفعل بسياسي رومانسي كمنصور الكيخيا؛ الذي يؤمن بالحوار الموضوعي الحر، وتبادل الآراء والقيام بالتبادل السلمي للسلطة وبين رجل يرى الأمور من منظور ثوري متطرف يفوق النظرية الديكتاتورية في إدارة الدولة.

لقد وصل إلى منصور عدد من المبعوثين، كما أسلفت، عاشور قرقوم سفير ليبيا في بلجراد زاره مرتين في باريس. لم يتغير حديث منصور؛ بمنطق رجل دولة يرى الأمور بمنظور لا يقترب من أي مسافة مع رؤية القذافي، الذي أصبح يدرك خطورة منصور على ثورة الفاتح بدعوته لفصائل المعارضة بالتوحد، وتنسيق الجهود لمقاومة نظام القذافي واستبداله. هذه هي خطورة منصور على نظام القذافي، وهي أن يوحد جهود الليبيين في كيان معارض واحد، واستثمار علاقاتهم الخارجية ضد القذافي ونظامه. الغرب كله ضد نظام القذافي.. والغرب نجح في توجيه القذافي نحو أفريقيا؛ لا فرق عندهم بين الاتحاد الأفريقي، أو الولايات المتحدة الأفريقية. المهم لديهم أن يلتزم القذافي بتنمية أفريقيا ويضخ أمواله الضخمة كاستثمارات فيها، وجعل رؤساء أفريقيا كافة تابعين له، طالما هو قادر على شراء ذممهم، وبالتالي يعفيهم من التزاماتهم الأخلاقية تجاه مستعمراتهم السابقة، ومنع تواجد المعارضة فيها.

لم تدرك المعارضة أن طموح القذافي كان أكبر من حدود ليبيا، فهو رجل أممي على مستوى العالم، وليبيا تمثل له حياً سكنياً فقط

لم تدرك المعارضة أن طموح القذافي كان أكبر من حدود ليبيا، فهو رجل أممي على مستوى العالم، وليبيا تمثل له حياً سكنياً فقط، وهو يسعى لجعل سرت عاصمة لليبيا، كما يسعى أن تكون المقر الجديد للاتحاد الأفريقي والأمم المتحدة، طموحاته الضخمة تلغي معها أية تفاهمات مع المعارضة ومع منصور. لم يفهم أحد ما كان يدور فعلاً في ذهن القذافي.

لم يستطع عاشور قرقوم تليين موقف منصور، ولم يجد أية نقاط مشتركة بين الرجلين من أجل مواصلة الحوار. ثم قابل المهندس جاد الله عزوز الطلحي منصور في باريس، ثم قدم حصيلة اللقاء بينهما مباشرة إلى القيادة، دون توضيح ماذا حدث بينه وبين منصور، وأخيراً قابل أحمد قذاف الدم، وهو أجرأ مبعوث للقذافي لأنه كان يعبر عن نفسه بشكل مستقل عن القذافي في أحيان كثيرة؛ لقد قابل منصور في الجزائر بوساطة جزائرية، ثم قابله ثانية في جنيف، وثالثة في باريس، ولكن موقف منصور ظل كما هو في السابق. وتوسط الأخوة العرب لتقريب المسافة بين الرجلين، ولكنها لم تأت بجديد وبقى الموقف بينهما كما هو عليه.

عند هذه النقطة تقرر في طرابلس ضرورة إحضار منصور إلى ليبيا، بأي ثمن وتحت الظروف كلها. كانت هناك لجنة أمنية عليا تجتمع كل ليلة برئاسة عضو مجلس قيادة الثورة الخويلدي الحميدي، ويحضرها عبدالسلام الزادمة، عبدالله السنوسي، سعيد راشد، عزالدين الهنشيري، التهامي خالد إبراهيم البشاري، موسى كوسا، إسماعيل الكرامي، أحياناً يغيب أحدهم إن كان في مهمة أخرى. وتتواصل هذه الاجتماعات غير أن قرارها لا يدخل مرحلة التنفيذ إلاّ بالاعتماد المباشر من القذافي نفسه.