Atwasat

نحو حكومة فاسدة

عبد الكافي المغربي الإثنين 09 يوليو 2018, 11:31 صباحا
عبد الكافي المغربي

يُزعَمُ أن الأمة الليبية مقبلة على انتخابات يُأمَل أن تقوم من ورائها الدولة التي تلبي القليل الأقل من آمال الشعب المغبون غبنا شديدا، ولئن كانت الكثرة من الموضوعيين ورجال السياسة تجد في الشوط الانتخابي القادم الحيلة الوحيدة أمام ما تعصف بالبلد من اضطرابات خطيرة وما تنخر فيها من تصدعات قارحة، والتهديدات الخارجية المحدقة بالبلد، أقول إذا كان فكر المتقدم ذكرهم يجري على هذا النحو من التفاؤل فليس يخلو الوسط من المتوجسين، والمرتابين، في إمكانية إقالة الوطن من مهاوي الفساد والحرب.

إن الناظر في سجل البلاد من الانتخابات والمواثيق السياسية التي لم تقم على أساس من دستور أو مرجعية من قوة قهارة يفيد بدون الخوض الفكري العميق أن الاحتكام للقوى الشعبية التي يتوزعها التذمر والهوى الجهوي ويوحدها الوعي الوطني المتردي لا يمكن أن ينقذ البلد على نحو ما نأمل. ولعلنا نساير من اختصروا الطريق فلم يقيدوا أنفسهم في سجل الناخبين، رغم أني دونت اسمي وسأجتهد في القيام بدوري كاملا كمواطن جدير بالديمقراطية. لكن ذلك لا يمنع أن أكون متشائما، أن ارتاب في خيارات غيري، بل ألا أثق في ثقتي الشخصية ذاتها. وإذ نبصر الطائفة الرجعية التي يزداد مناصروها من الجهال والمسفين يقبلون على الاقتراع بحماس محموم كأن لم يكفروا بالديمقراطية والبدع المستوردة بالأمس، فإن الشك في كفاءة الصندوق في فصد الدم الفاسد وتطهير المؤسسات من الرجس السياسي والتصدي للعقل المليشياوي السائد في جميع ربوع البلاد يكاد يكون في محله، واحتمال قيام حكومة أشد فسادا وأضل نهجا من سابقاتها لن يكون يوما مستبعدا.

لاحتكام للقوى الشعبية التي يتوزعها التذمر والهوى الجهوي ويوحدها الوعي الوطني المتردي لا يمكن أن ينقذ البلد على نحو ما نأمل

إن لمصيبتنا قسمان، قسم يساهم فيه الشعب، وقسم تختص به الحكومة. فأما شعبنا فبائس لا يخلو من قحة وغني من إسفاف، وقحته وإسفافه لا ترد عنه حقيقة الذلة والبؤس، بدلت أحزانه وتحطم آماله فرحته بالثورة فطالَعَنا خلقٌ جديد متجهم مكفهر، مفتقر إلى المعرفة، لم يتوفر له نصيب من الاستنارة العقلية، محروم من الوعي السياسي الناضج، فخور بعقليته التي تسبح في ظلمات القرن الحادي عشر، نازل بحقوقه التي يجهلها لطاغية الأمس العزيز الذي عاد ينافس الطغاة الذين أحدثتهم الثورة.

وإذا ما أُبدلت الحكومة خلقا جديدا، ولم يتسلل إليها أي من رجال السنوات الرهيبة، لا يبعد إذا صح هذا الفرض الضعيف أن تقف المحاصصة المناطقية وغياب دستور توافقي قاطعٌ في نصه على حقوق الشعب وواجباته إزاء حكومته، وكذلك تدهور الإيمان الوطني واضمحلال المؤسسات التعليمية، وانصراف المواطن غير المتأدلج عن الواجب الانتخابي، أقول لا يبعد أن تخنق العقباس السالفة جميعها أية محاولة شجاعة لإصلاح الحكومة الفاسدة.

ذلك أن الحكم الفاسد أقدر على دفع جبروت الأيام من أيقوناته المتجلية في الأشخاص الفاسدين، ما دامت النظم السياسية والعقائد الدينية والعواطف الجماهيرية وأنماط التفكير وتشريعات الحكم تمده بما يضفي عليه جلالا وسُمُّوًا لا تطاله أسلحة التغيير. والحكم الفاسد عريق الأصل لطول عهد التاريخ به، وكلما ضرب الشيء بأطنابه في القدم بلغت به عظمة المجد شأوها. وقد برهن البشر أكثر من مرة على تقديمهم للحكم الطالح على الصالح، وفساد الديكتاتوريات الأوروبية في الثلاثينيات شاهد صارم على ما نسوق.

برهن البشر أكثر من مرة على تقديمهم للحكم الطالح على الصالح، وفساد الديكتاتوريات الأوروبية في الثلاثينيات شاهد صارم على ما نسوق

ولكن أين الضمير وأين الإيمان من ذلك كله؟ مَثَلُ الموظف الحكومي الرفيع والزعيم السياسي مَثَل المثلي، نشجُب هواه ونَقمعه، وهو يتهمنا بالظلم لأنه يجد في الغلام الجميل الناعم، ما يجده الرجل الشهواني إذا كشفت له فتاة بديعة الحُسن عن ساقٍ خميصة وفخِذٍ لفاء، ويظن أن هذه الرغبات طبيعية بما أنه لا يمكن إحلال أخرى مكانها. مِثلُه هذا الموظف وذلك الزعيم، إنه يتبدل بعد تقلد السلطان وإن كان أطهر الناس طرا نفسا خبيثةً، وما كان بالأمس فسادا وسرقة يغدو اليوم توطيدا لمستقبل الأولاد وسياسة ناجعة للبقاء، وسياسته وفقا لعقليته المحْدثة لا تفترق عن وسيلة الدفاع التي تتخذها السحلية أو وثبة السنور وقبضته المدمرة التي تحفظ نفسه، في شرعيتها. "ما علي من الناس" يقول حاله، إن هم ظفروا بما ظفَرتُ به ما عتِموا أن تجاوزوه فسادا وطغيانا.

وأين الإيمان، وحسبي أن أقتبس من نجيب محفوظ "هناك مئات من المؤمنين يكدح الملايين لإسعادهم." لقد حاول فلاسفة السياسة وعلماء التاريخ ورجال الاقتصاد منذ عصر التنوير تأمين نظرياتهم وتقديم أيديولوجيا النظام الحديث في هيئة من الكمال لا ينتابها النقص، وقد اجتهدوا، وما أكثر ما خذلتهم الحوادث. وما زال الفساد يتربع فوق النقد في الجزء الأعظم من أرضنا، ويبعث على التشاؤم أن بعضنا يسوغه أو يستنيم إليه، وهؤلاء إما تغريبيون متشددون أو متزمتون جاهلون، وما يَقْرح الكرامة العربية أن يقول قائل منا يمم في كل ناحية واغترف من بهاء الغرب وروائه إلى حد طافح: "لتأخذ أمريكا وأوروبا ديمقراطيتها ودساتيرها ولتترك لنا نظُمنا العتيقة الفاسدة، فنحن لا يستقيم لنا شأن بغيرها.

ولستُ غنيا يابس القلب لأعرض عن قهر المطحونين الذين لا يُسمع لهم صوت، والذين يفترسهم الفساد ويجعلهم يكرهون وطنهم وأنفسهم. وإذا سُئلت ما الحل أجبتُ إجابة عربية ونفضت التفلسف عني في الساعة، إننا في عوز إلى رجل ذكي شريف ضنين به عصرنا، تذوب في عروقه دماء أتاتورك وبورقيبة وإدريس الأول، ونظام يبسط الطريق أمام التطور السياسي والانتقال الديمقراطي الآمن، ونظن أنه لن يقطع الطريق أمام الرجعية ويقود البلاد إلى حكم صالح غير النظام الملكي الرشيد. وإذا لم يكن فنحو حكومة فاسدة، نحو نهاية عاجلة.