Atwasat

شباب على طول الطريق

محمد عقيلة العمامي الإثنين 09 يوليو 2018, 11:12 صباحا
محمد عقيلة العمامي

قرأت نصا يقول: "على المرء أن يستلهم الوحي من النفوس الشابة؛ التي ظلت على نشاطها الخلّاق طوال حياتها.. فلقد أتم شاعر ألمانيا تحفته (فاوست) وهو في الثانية والثمانين. ولم يتوقف (توسكانيني) عن قيادة فرقته الموسيقية حتى بلغ السابعة والثمانين. واستمرت تجارب (اديسون) في معمله وهو في الثالثة والثمانين ..".

وطويت النص، وحاولت أن أسترجع أسماء ليبية، بل وحتى عربية، ولكن لم يخطر ببالي سوى قلة من المعاتيه، قد ينزلق لساني وأذكر أحدهم فأفقده لأنه يكره الحديث عن مسألة العمر، تماما مثل عدد من الصديقات اللائي يغلبهن طبع الأنثى في المسألة ذاتها.

حالات (استلهام الوحي) في بلادنا نادرة، وإن بَيَنتْ مواقع التواصل الاجتماعي العديدين منهم؛ فأولئك الذين وهبهم الله نفوسا شابة لم يتوقفوا أبدا عن نشاطهم الخلاق. هذا الصباح كان أول إدراج قرأته لصديقنا وأستاذنا عبد القادر غوقه يتحدث فيه عن واقعة حدثت له في بيروت عندما كان سفيرا لليبيا سنة 1975، أي من حوالي 45 سنه ولو افترضنا أنه تولى منصبه وعمره 40 سنه فقط، فإن ذلك يعني أنه من أولئك الذين ظلوا على نشاطهم الخلاق حتى الآن، فمن من مدينتي لا يعرف نشاطه المتميز منذ أن كان كشافا رحالا؟ ومن لا يعرف اهتماماته الأدبية والفنية؟ خليفة الفاخري أكد لي أنه أحد القلائل الذين يعدون من رواة الشعر العربي ومفسريه، وقد يكون الأبرز في شعر المتنبي، وصديقنا مفتاح الدغليى يؤكد أنه أحد أفضل متتبعي أم كلثوم! ولكن كم ليبيا في مثل عمره وعمري، وعمر محمود شمام، الذي أراه هذه الأيام متحمسا وكأنه مجموعة شباب يتحركون بين بيروت وتونس والقاهرة من أجل أن يبتدئ بث قناة الوسط المرئية في موعدها المحدد. لابد وأنكم تعرفون كثرا من بلادي، يمتلكون مثل هذه النفوس الشابة الخلاقة؟

إننا لا نحصى سنوات عمر الرجل إلاّ أذا لم يعد لديه ما يحصى غيرها

يقول أحد الفلاسفة الغربيين: "إننا لا نحصى سنوات عمر الرجل إلاّ أذا لم يعد لديه ما يحصى غيرها .." وتلك حالة استسلام نهايتها معروفة. وهذا أمر لا يحدث لأولئك الذين يمتلكون القدرة على الاحتفاظ بروح الشباب، متحدّين الشعر الأبيض والتجاعيد، وخيانة الركب وأوجاع المفاصل.

والمرء يتواصل نموه فقط، أما روحه فلا تشيخ أبدا إلاّ بعد أن يتوقف عن الحلم والتطلع إلى الخلق والإبداع، وتلك هي الحياة الحقيقية، فالاحتفاظ بالذكريات المبهجة تخلق القلب المرح، الذي يراه الفلاسفة بلسما للجسم. أما الروح المحطمة هي التي تجعل جسم الإنسان مجرد جراب من العظام الجافة. يقول أحد الحكماء إن احتفظت بقلبك شابا، سيكون رحيلك سلسا رائعا، موكدا أن مثل هؤلاء ستتجدد قواهم وهم ينتظرون الله وسيرتفعون إليه بأجنحة كالنسور.

ترددت كثيرا على قرية صغيرة اسمها (إنوفتا) تقع على الطريق الذي يربط (أثينا) بميناء (خالكيدا) وتعرفت، بالصدقة، على عجوز يسكن غير بعيد من البيت الذي أقطنه. جمع بيننا توافق حول "هوايات" عديدة. ما إن ألتفُ من مدخل الشارع حتي يستقبلني بوجه مُجعد ولكنه باسم لوّحته الشمس، حرثته السنون بالطول والعرض وعينين ملونتين حادتين ولكنهما دافئتين. وما إن أقترب منه حتى يقف وكأنه ينتظرني، ويأخذ في حديث متصل، وهو يعلم أنني لا أفهم كل ما يقوله، ولكنه لا يتوقف ويتخلل حديثه ضحكات، ثم يسحب كرسيا أزرق اللون من سقيفة بيته ويضعه بجانب الكرسي الآخر عند باب البيت، وسريعا ما تأتي رفيقته (إريني) بصندوق خشبي بلون الباب والكرسيين، وتضعه، كمنضدة، بيني وبينه، فتكتمل اللوحة بالحائط الأبيض واللون الأزرق. ويشكرها، مواصلا حديثه، وهو يضحك، وأضحك معه فهمت أم لم أفهم. ثم تحضر له طماطمتين ناضجتين يقسمهما بسكينه الشخصي من منتصفهما، ويمسحه بفوطته، قبل أن يغمر النصف السفلي بملح وفلفل أسود، وزيت زيتون ويضع النصف العلوي فوق السفلي، ويتركه حتى تأتي له برغيف القمح (حلوزي) ساخن كقبة ذهبية فوق قماشة بيضاء، وتضعه على الصندوق بجانب طبقي الزيتون، وجبن ماعز وزجاجة الزيت وخل العنب.. وإبريق النبيذ.

على (العقلاء) أن يتخلوا عن بعض سلوكياتهم وعاداتهم كلما تقدم بهم العمر

منزل ستفروس يتكون من غرفة واحدة ومطبخ بفسحة للجلوس. كل احتياجاته يزرعها أو يصنعها بنفسه، ولا يشتري من سوق القرية شيئا سوى تبغ غليونه. أحيانا أجده وكأنه ينتظرني مقترحا فسحة قريبة من سفح الجبل لنبحث عن فقاع بري، أو كمأة في أوانها، وفي الصيف نذهب إلى البحر فيقضى ساعاته وكأنه طفل موعود بها، ونعود بصغار من حبارات البحر ليشويها فوق نار هادئة بعد أن ينقعها في قليل من الخل والزعتر البري. ولن أنسي مطلقا مثابرته وإصراره على توصيل ما يريد قوله كافة، لدرجة أنني انتبهت إلى أن مفرداتي اليونانية تحسنت كثيرا، وإن كانت قدرتي على الفهم أكثر من الحديث.

ذات مساء فهمت منه رأيا فلسفيا، ما زلت، بل سأظل حتى النهايةـ أعتبره جزءا من قناعاتي؛ خلاصته: يرى الناس أنه على (العقلاء) أن يتخلوا عن بعض سلوكياتهم وعاداتهم كلما تقدم بهم العمر، ولكن (ستفروس) يؤكد أن المرء يتقدم به العمر سريعا عندما يتخلى عن سلوكياته وعاداته الطبيعية إرضاء لغير نفسه... (ستفروس) سعيد جدا.. جدا. وعندما كتبت عنه في روايتي " وشم على جدار العين" كانت بضعة أيام هي فقط ما تفصله عن التسعين عاما، ولا أدري إن كان مازال يضحك.. أم لا!