Atwasat

محنة أمة (3)

أحمد معيوف السبت 30 يونيو 2018, 01:13 مساء
أحمد معيوف

إذا كان مفكرو جيل النهضة - وجلهم من الإسلاميين في مذاهبهم الفكرية - قد وعوا أسباب التخلف بداية من جمال الدين الأفغاني الذي دعا إلى الجمع بين الأصالة والإبداع، وتلميذه محمد عبده الذي ثار في وجه الاتباع والتقليد ودعا إلى تحرير الفكر والعلم والتربية والتعليم من ذلك، وعبد الرحمن الكواكبي الذي اهتدى إلى علة التخلف ونسبها إلى الاستبداد السياسي، ومحمد إقبال الذي حاول أن يعيد بناء الفلسفة الإسلامية معتمدا على التراث الفلسفي في الإسلام وعلى التطورات في ميادين المعرفة الإنسانية، ومالك بن نبي الذي يرى في تصفية الأفكار الميتة وتنقية الأفكار المميتة الأساس الأول لأية نهضة حقة، فإن جيل النكبات كان بعيد كل البعد عن هذا الفهم.

لقد وعى جيل النهضة لحد كبير أسباب التخلف وأسس فقه محاربته والخروج منه، إلا أن جيلنا من الإسلاميين والإسلامويين لم يستوعبوا طرح رواد النهضة، لذلك كان سؤالهم أشد بؤسا وأكثر إمعانا في الذات المنغلقة، وكان سؤالهم رهين سياج الانغلاق الأيدولوجي يفتقد إلى فهم المعاني والمقاصد. فلست أفهم كيف نكون "خير أمة" ونحن في أسفل درك الحضارة. هل تعنى الخيرية مجرد انتمائنا إلى الإسلام؟ أم تعني قيامنا بمقومات الخيرية وتكريس قيم الحضارة الإنسانية التي نادت بها الشرائع السماوية؟ لعلي أسمح لنفسي أن أتجرأ وأتساءل عن حقيقة ما نسميه الحضارة الإسلامية (!): هل هي حضارة أمة ما تعني التوسع الجغرافي لهذه الأمة في أصقاع الأرض؟، أم أنها تعني الإسهامات الفكرية والمادية لتلك الأمة وما تضيفه للتراث الإنساني؟.

لست أفهم كيف نكون "خير أمة" ونحن في أسفل درك الحضارة. هل تعنى الخيرية مجرد انتمائنا إلى الإسلام؟

الحقيقة هذا السؤال مرعب ومخيف، لأنه قد يغير بعض تصوراتنا حول كل الحضارات القديمة والمعاصرة. فالتوسع الجغرافي هو أحد أهم مؤشرات الحضارة وسمة من سماتها، وكل حضارة تتكون تسعى فيما تسعى إليه إلى التوسع الجغرافي والامتداد خارج محيطها الإقليمي، واستعمار الشعوب الأخرى تحت مبرارت كثيرة تقدمها كحجج لفرض هيمنتها. وليس من الضروري أن تفرض الأمم المنتصرة قيمها الحضارية على الأمم المهزومة، بل عملية انتقال قيم الأمم الغالبة وقبولها من قبل الأمم المهزومة هي عملية نفسية يفرضها أمران: أولهما الانبهار بالغالب باعتباره غالبا، وثانيا الانبهار بالقيم التي يعتنقها.

وإذا تناولنا الحضارة الأسلامية: فهل نعني بها الإرث العلمي والفكري الذي ساهمت به الإمبراطورية الأسلامية في التراث العالمي أم هو الدين الإسلامي؟. هل نستطيع أن نفصل بين الدين الإسلامي كعقيدة وبين الفكر الإسلامي كناتج حضاري نتج كإرهاصات لهذا الدين؟ الحقيقة البحث في هذين السؤالين سيجرنا إلى رؤية بصيص من النور في فهم هذا الانحطاط الذي وصلنا إليه. لأنه بالفعل تم في القرن الرابع للهجري ... حسب ما يذكر العديد من المفكرين الإسلاميين ... الانفصام بين الدين والعلم، وارتدى الدين لباس الكهنوت، وانفصل عن العلم الذي نتج عن تحرير الفكر المسلم. ولست أقصد هنا الدين المنزل الذي أرسل الله به الانبياء، وإنما فهم الناس لهذا الدين، أقصد الدين والعلم كنتاج بشري.

الكثيرون من أعلام الفكر الإنساني نشئو وتربوا في حضن الإسلام وعلى تعاليم هذا الدين، وقد نكتفي بالأسماء اللامعة في سماء العلم كابن حيان وابن المقفع والكندي والخوارزمي في القرن الثاني للهجرة، والطبرى والرازي والفارابي والأصفهاني من علماء القرن الثالث، والبيروني وابن سينا وابن الهيثم من علماء القرن الرابع، وابن رشد والغزالي من علماء القرن الخامس، والكثيرون غيرهم من علماء القرون الأربعة الأولى للهجرة التي ازدهرت فيها البشرية بما أنتجه نبوغ هؤلاء. المفارقة أن المسلمين يفتخرون بإنتاج هؤلاء ويعتبرونه إسهاما من إسهامات الحضارة الإسلامية التي بنيت على أطلالها حضارة الغرب الحديثة، إلا أنهم في نفس الوقت يتنكرون لصناعها، بل وصل الأمر أن كفروا هؤلاء النوابغ الذين أسسو لهذه الحضارة، ولا نبالغ إذا شئنا أن نقارن بين الأحكام الجائرة التي صدرت في حق هؤلاء المنارات من قبل الكهنوت الديني والسياسي حينذاك، وبين أحكام محاكم التفتيش في أوربا أثناء عصور انحطاطها.

هل نستطيع أن نفصل بين الدين الإسلامي كعقيدة وبين الفكر الإسلامي كناتج حضاري نتج كإرهاصات لهذا الدين؟

فعلى سبيل المثال لا الحصر، كفرت محاكم التفتيش الراهب البولندي كوبرنكس لأنه صاغ نظرية مركزية الشمس ودوران الأرض حولها، وكفرت القسيس الكاتوليكي الإيطالي غاليليو لأنه دافع عن نظرية كوبرنكس التي تتعارض مع تفسير الكنيسة للكتاب المقدس، وكفرت نيوتن وديكارت وفولتير وحرمت قراءة كتبهم. كذلك الشأن بالنسبة للـ"الكهنوت" الإسلامي بشقيه الديني والسياسي، فقد اتهم الطبرى مفسر القران الكريم بالإلحاد من قبل الحنابلة حين غفل ذكر الإمام أحمد في مصنفاته، ونكر قولهم بجلوس الله على العرش، وتعرض للمضايقة منهم حتى مات أو ربما قتل، وكفر ابن سينا والكندي والفارابي، وحرقت كتب الغزالي وابن رشد، وقطعت

أوصال ابن المقفع وشويت أمامه قبل أن يفارق الحياة. وفي حين رفع المأمون والمعتصم فكر المعتزلة واضطهد الأشاعرة قام المتوكل باضطهاد المعتزلة والتشيع للأشعرية. وربما لا يفكر المسلمون الذين يتغنون بالحضارة الإسلامية ان الحضارة الإسلامية تفقد قيمتها كحضارة إنسانية أن أزاحت هذه الكواكب المشرقة وإنتاجهم الفكري من سمائها، فالدين من صنع الله وليس لنا يد في إنتاجه، لكن الحضارة من صنع الإنسان ولنا كل الحق أن نفتخر بمن ساهم فيها.