Atwasat

القادة محاضر وليسوا مناظر

محمد عقيلة العمامي الإثنين 25 يونيو 2018, 12:34 مساء
محمد عقيلة العمامي

يبدو أن الإمام الأوزاعي، الذي مات مختنقا من دخان (مرعوبة) لم تحترق بكانون النار، سها عن دخانها من بعد أن طال تفكيره في حال أمتنا، التي قال عنها: "إذا أراد الله بقوم سوءا أعطاهم الجدل ومنعهم العمل". وقد يكون هذا ما انتبه إليه وهو يراقب حال المسلمين في فترة انتقالية حرجة للغاية هو السبب؛ فلقد عاش منذ حوالي ألف عام في ذلك الوقت المحوري في تاريخ أمة الإسلام، وهو نهاية الدولة الأموية وقيام الدولة العباسية. وما أشبه ذلك الحال بحالنا الآن، الذي قد يجعل ممن يتفكرون فيه يسهرون بجانب كوانين النار في ليالي الشتاء الحزينة، فيختلط النومُ بالنومِ، خصوصا من بعد أن غابت اسطوانات الخزان، واحترقت صهاريج النفط.

ما أشبه حال الإمام الأوزاعي بأئمة هذا العصر، ومفكريه وسياسييه.. بل بعامة أهالينا؛ أصبحت مسألة الدستور والانتخابات، وأيهما تسبق الأخرى جدلا يوميا.. لم تعد معرفة أيهما الأسبق كمسألة البيضة أم الدجاجة؟ بل تطورت لتصبح البيضة أو الديك!؟ لم يعد حالنا يخفى على أحد، ولا نقاشنا وانتقاداتنا لأولياء الأمر فينا تتعدى أصله وفصله وحالته قبل ثورة فبراير، فهذا كان لا يملك إلاّ الستر، وذاك كان مجرد ساع، أو فني الكترونات، أو سائق، أو أنه من النظام السابق.. وغير ذلك كثير.

أصبحت مسألة الدستور والانتخابات، وأيهما تسبق الأخرى جدلا يوميا.. لم تعد معرفة أيهما الأسبق كمسألة البيضة أم الدجاجة؟

أريد أن "أجادل" نفسي، وأحتفظ بقناعتي لنفسي، فأنا أعرف مسبقا أن موضوعي هذا خصب وقابل أن يُحمل متناقضات لا يمكن حصرها، وبالطبع لا أرغب في نقاشها بقدر ما أريد أن أنقل إليكم بعضا مما حواه كتاب ترجم ونشر في بيروت سنة 1880 وأعيدت طباعته هذه السنة. كتبه مؤلف وطبيب اسكتلندي اسمه (Smiles Samuel ) متوفى سنة 1812 وأسماه (Self-help) يعني معونة الذات أو كيف تعين نفسك، وإن كانت ترجمة الكتاب للغة العربية هي (سر النجاح) وهي الأفضل والأقرب إلى فحوى الكتاب.

الكتاب يتكون من ثلاثة عشر فصلا، تتناول سير شخصيات ابتدأت من الصفر، من أصول متعددة الظروف الاجتماعية تتفق جميعها في أنها لم تقضِ طفولة هانئة أو مثلما يقال ولدوا يأكلون بملعقة من الذهب. كانوا مجرد أطفال بائسين، وشبوا من طبقات كادحة بائسة هي التي اسمتها الشيوعية بمصطلح (البروليتاريا). ولكن نجاحاتها تصاعدت حتى أن بعضهم وصل رئاسة بلاده. الكتاب يتحدث باختصار شديد عن الآلاف من هذه النماذج.

ما ينبغي أن يقال في موضوعي هذا، آخذين في الاعتبار أن كاتبه بريطاني، هو أن تاريخ بلاده لم يسجل ناسا من عامة الشعب "ارتقوا من أدني مراتب الجند إلى أعلاها كما شاع ذلك في فرنسا، على سبيل المثال، من بعد ثورتها سنة 1789". نحن شبهنا ثورة 17 فبراير بالثورة الفرنسية. وأنا لا أريد أن أتعرض، لمن قال هذا التشبيه، ولا لأي من الأسماء التي برزت في ليبيا من بعد 2011، حتى لا يقال إنها مقالة تزلف، غايتها تسويق مسبق لأسماء لم تعد خافية على أحد، ولكن علينا أن ننظر إلى واقع الحال في بلادنا وفق بديهيات ينبغي أن ننتبه إليها؛ وهي أن هذه الأسماء أصبحت تملك ثروات وسلاحا وكتائب تسمت بأسمائها وأذرع طويلة داخل وخارج البلاد، بل وكثير منهم يحف بهم العديد من المستشارين الاقتصاديين والسياسيين، والعسكريين بل ومنهم من أصبح مصلحا اجتماعيا هدفه إصلاح الحيز الذي يسيطر عليه، ناهيك أن بعضهم يعمل بجد لإصلاح منطقة نفوذه وحماية "مواطنيها" بل أصبحت تقتص من الحكومة إن تطاولت على أحد منهم؛ بمعنى أنهم صاروا يوفرون الأمن والأمان لهم طالما ظلوا مواطنين صالحين و(مطيعين). هذا باختصار شديد يعني أنهم الآن جزء فاعل في الحل، الذي لن يأتي أبدا من حكومة هم ليسوا طرفا قويا فيها.

أنا أقول إنه لا مأخذ لأحد عليهم لأنهم لم يولدوا "نبلاء" أو أنهم كانوا فقراء، أو أنهم مارسوا أعمالا بسيطة لا تؤهلهم لأن يكونوا قادة.. وقد يكون هناك من جنح، ولكن لا أعتقد أن لهم تاريخا إجراميا مرعبا. ولم نسمع أن أحدا منهم، أعلن رفضه لقيام جيش واحد موحد.

اعلموا أن من يملك القوة، والمال ويعامل الناس بالحسنى، ويتصدى للظلم والظالمين ويعمل على أمن البلاد والعباد، ويحترم حرياتهم هو من سيحكم ليبيا

يظل المأخذ عنهم هو الفقر وبدء حياتهم بالأعمال البسيطة، وهو الموضوع الذي تناوله الكتاب الذي أشرت إليه، علما أن من تناولهم عاشوا قبل سنة 1850. ولعل أشهر من تناولهم هذا الكتاب (أندرو جنسن) الرئيس السابع عشر للولايات المتحدة الأمريكية، الذي بدأ حياته ( تارزي) ، والكردينال (ولس العظيم) كان ابن جزار، وعالم الفلك الكبير ( دالمبر) لقيط رباه فلاح فقير، ومن الثورة الفرنسية ارتقى كثيرون منهم (هش رأمير) كان يطرز الثياب ويشتري بما يكسبه كتبا يتعلم منها فنون الحرب، وتطوع جنديا، وأصبح قائد لواء. و (سان سير) كان دباغ جلود وانخرط في سلك الفرسان، وأصبح قبطانا، و (فكتور درك بلونو) الذي رفض الانخراط في الجيش قبل الثورة الفرنسية، ثم انضم إليه بعد الثورة وأصبح من قادتها. والمرشال (رندون) الذي دخل الخدمة صبيا يضرب الطبل في فرقته بالجيش وأصبح وزير حرب، والحجاج بن يوسف الثقفي، بتاريخه المثير للجدل، كان مدرسا فصار أمير العراق وخراسان، وأبو الطيب المتنبي كان ابن سقا والإمام أبو حنيفة كان نساجا، والطبيب المشهور أبوبكر الرازي كان عوادا.. وغيرهم كثيرون تناولهم الكتاب المشار إليه.

والتاريخ الحديث يخبرنا أن (هربرت موريسون) الذي بدأ حياته صبي بقال وتوقف عن الدراسة من الابتدائية، ولكنه ثقف نفسه وتعلم ليصبح وزيرا لخارجية بريطانيا. ولعل الأبرز في هذا الشأن الرئيس البرازيلي (لولا دا سيلفا) الذي ربته أمه مع ستة أطفال في غرفة واحدة، وترك الدراسة في سن العاشرة، وعمل ماسح أحذية.. وتواصلت أعماله اليدوية البسيطة إلى أن قادته قناعاته ومطالبته بحقوق العمال ومحاربة الفساد إلى السجن، ووصل الحكم فقام خلال سنوات حكمة الثمانية بالوصول بالبرازيل إلى مصاف الدول المتقدمة، وعند انتهاء ولايته خرج الشعب بالملايين مطالبا بتعديل الدستور لتمكينه من ولاية ثالثة. فخرج إليهم باكيا وخطب فيهم قائلا: (ناضلت ودخلت السجن لمنعهم من الحكم أكثر مما يسمح القانون.. فكيف أسمح لنفسي أن أفعل ذلك؟).

تذكروا ذلك كله واعلموا أن من يملك القوة، والمال ويعامل الناس بالحسنى، ويتصدى للظلم والظالمين ويعمل على أمن البلاد والعباد، ويجمع السلاح ويتصدى ويعدل بين الناس، ويحترم حرياتهم هو من سيحكم ليبيا. هكذا يقول التاريخ وهذا هو ما يريده الناس.. أو بمعنى أدق ما أنا مقتنع به شخصيا.