Atwasat

محنة أمة (2)

أحمد معيوف السبت 23 يونيو 2018, 02:23 مساء
أحمد معيوف

السؤال المطروح والذي حاول الرواد الإصلاحيون أن يجدوا جوابا له، وسبق أن طرحه عالم تركي ومسؤول عثماني يدعى إبراهيم موتيفريكا في زمن الركود الفكري للدولة العثمانية، وأجاب عليه إجابة موفقة في ظني. كان إبراهيم موتيفريكا مهندسا للعلاقات السياسية بين الإمبراطورية العثمانية وفرنسا والسويد، وقد أتاح له عمله كدبلوماسي أن يلم بالأفكار الأوروبية لعصر النهضة، ويتعرف عن كثب على آثار انتشار استخدام المطبعة، لذلك عمد عند عودته إلى إسطنبول على تأسيس دار للطباعة، وبدأ في طباعة الأطالس والقواميس وبعض الكتب الدينية، وقد نشر خريطة أطلس العالم، ووضّح فيها معالم العالم المعروف آنذاك بدقة متناهية. وإلى جانب الطباعة كتب موتيفريكا في التاريخ وعلم الأديان وعلم الاجتماع وعلم الفلك. وقد تساءل موتيفريكا “كيف تمكنت الأمم النصرانية التي كانت ضعيفة مقارنة بأمم الإسلام من استعمار الكثير من الدول؟، وكيف تمكنت أيضا من هزيمة جيش الدولة العثمانية القوي؟، فكان جوابه كالتالي: “لأن هذه الامم لها قوانين ولوائح ومؤسسات صنعت بعقل ومنطق”.

الكواكبي لم يذهب لما ذهب إليه الكثيرون في أن سبب العلة التهاون في الدين، بل اعتبر التهاون في الدين نتيجة من نتائج الانحطاط وليس سببا له

في تقديري هذا جزء من الجواب على التساؤل المطروح في وقته، ويأتي تتمة الجواب من رواد الحركة الإصلاحية وفي مقدمتهم عبد الرحمن الكواكبي الذي أدرك علة التخلف والانحطاط في المجتمعات الإسلامية، وكتب كتابه الشهير في هذا الموضوع والذي سماه "طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد". اعتبرالمفكر عبد الرحمن في فاتحة كتابه أن الانحطاط مرض أصاب هذه الأمة، وقد حاول البحث عن أصل العلة، وأن يفرق بين مظاهرها وأسبابها. ولم يذهب لما ذهب إليه الكثيرون في أن سبب العلة التهاون في الدين، بل اعتبر التهاون في الدين نتيجة من نتائج الانحطاط وليس سببا له، وبذلك أسقط ما يتغنى به الكثيرون بأن العودة للدين سبب للارتقاء، فالأصل الارتقاء والحضارة سبب في العودة للدين والفضيلة وليس العكس. كما لم يرَ الاختلاف في الآراء سببا في هذه العلة، بل ويرى في هذا الاختلاف فضيلة للعقل تميز بها العلماء في اختلافهم قبل الجهلاء.

خلاصة تجربته جعلته يؤمن بأن سبب الانحطاط يعود إلى الاستبداد السياسي، ونشر مقالاته التي ضمنها كتابه عن مفهوم الاستبداد وتأثيره في العلم والأخلاق والاقتصاد والعمران. ومما يدهشني في تجربة الكواكبي مجموعة من الأمور هي:

• أولا: فهمه لطبيعة العلاقة السليمة بين المواطن وبيئته في الأمم المتحضرة، حين أشار إلى أن "علاقة الإنجليزي والأمريكي بقومه وحكومته ليست إلا علاقة شريك في شركة اختيارية، خلافا للأمم المتخلفة التي تتبع حكوماتها في كل شيء حتى فيما تدين".

فهمه الآية الكريمة ((ولتكن منكم أمّةٌ يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر))، فهو يعتقد أن القصد من الآية هي مراقبة السلطة وليس مراقبة الناس

• ثانيا: إقراره بأن الاستبداد السياسي هو وليد للاستبداد الديني، ذلك أن التَّعاليم الدّينية "تدعو البشر إلى خشية قوّة عظيمة لا تُدرك العقول كُنْهَها، قوّة تتهدَّد الإنسان بكلّ مصيبة في الحياة وبعد الممات". والمستبدون يبنون استبدادهم على هذا الأساس، إذ "يسترهبون النّاس بالتّعالي الشّخصي، ويُذلِّلونهم بالقهر والقوّة وسلبِ الأموال حتَّى يجعلونهم خاضعين لهم". ويعتقد كما يقرر هو بنفسه "أنَّ التَّشاكل بين الدين والسياسة يجرُّ عوام الناس - وهم السواد الأعظم - إلى نقطة أنْ يلتبس عليهم الفرق بين الإله المعبود بحقّ وبين المستبدّ المُطاع بالقهر"، وتصبح النتيجة الطبيعية أن لا يرى الناس "لأنفسهم حقّاً في مراقبة المستبدّ لانتفاء النّسبة بين عظمته ودناءتهم".

• ثالثا: فهمه الآية الكريمة ((ولتكن منكم أمّةٌ يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر))، فهو يعتقد أن القصد من الآية هي مراقبة السلطة وليس مراقبة الناس. ويعتقد أن الغرب فهم هذه السنة الكونية وعمل بها عن طريق تأسيس البرلمانات التي تراقب أداء الحكومات.

• رابعا: فهمه للحديث الشريف " كلُّكم راعٍ وكلُّكم مسؤولٌ عن رعيّته" فاعتبرها أسمى قاعدة لمشروع سياسي، فالراعي في فهم الكواكبي هو سلطان ومسؤول عن الأمة، أي هو أكبر مما يروج له الفقهاء.