Atwasat

الجضران.. الشجرة التي تخفي الغابة

صالح السنوسي الخميس 21 يونيو 2018, 01:56 مساء
صالح السنوسي

لم يكن الجضران وحده عندما بدأ في مشروع الاستيلاء على الموانئ النفطية ومنع تصدير النفط، بل كان معه وخلفه عدة أطراف سواء خارجية أو داخلية.

فقد تميزت المرحلة التي أعلن فيها الجضران استيلاءه على الموانئ التي كان مكلفاً بحراستها، بسمتين أولاهما هي ظهور آخر علامات فشل مشروع الدولة التي كان الليبيون يطمحون إلى تحقيقها وذلك باستسلامهم لتغول المليشيات المؤدلجة والعصابات المسلحة في المدن الكبيرة مثل بنغازي وطرابلس ودرنة ومصراته وإعلان كل منها عن مشاريعها الخاصة بها والتي لا أحد منها يحمل شبهة الدولة المدنية، بينما تمثلت السمة الثانية في ارتفاع وتيرة الدعوات الجهوية والقبلية والمناطقية وتجسيدها في مؤسسات عرجاء محلية وسيادية، تنفيذية وتشريعية يتحدث شاغروها وممثلوها باسم مدنهم وأقاليمهم وقبائلهم، ولا يرد ذكر الدولة الليبية في حديثهم إلا عرضًا كملحق بروتوكولي يتبع ما قبله وليس العكس.

عندما ظهر الجضران لأول مرة على مسرح الأحداث الليبي، كانت الجهوية والدين في أوجِّ تغولهما

إذن عندما ظهر الجضران لأول مرة على مسرح الأحداث الليبي، كانت الجهوية والدين في أوجِّ تغولهما، فقد كان تحت تصرف الجضران حصانان لايصل أحد في ليبيا إلى السلطة إلا على ظهر أحدهما، فبدا إبراهيم الجضران في تلك الحالة ينطبق عليه المثل الفرنسي الذى فحواه "فلان محتار بين خيارات كلها جيدة ومناسبة له".

فمن حيث الجهوية وجد أمامه مشروعًا يصفه أصحابه بأنه فيدرالية ووجد تحت تصرفه بعضًا من المشايخ وثلة من النخبة المتواضعة القدرات والتي لا تؤهلها لخوض تنافس على مستوى نخب الوطن، فامتطت جواد القبيلة والجهوية لعلها تصل إلى ما تطمح إليه من مكانة لا تستطيع الوصول إليها عن طريق آخر غير هذا.

كل هذا فتح أمام الجضران آفاقًا ربما لم تكن تخطر على باله عندما كان يخطو أولى خطواته نحو الاستيلاء على ما كان بين يديه من المنشآت النفطية، فأعلن عن مشروع دولة مبطن في الشرق الليبي ونصبته مجموعة من المشايخ والمتعلمين زعيمًا لدولة المستقبل ورئيسًا لمكتب سياسي جدير بحركة تحرر وطني لشعب يعانى من استعمار قومي ثقافي استيطاني على غرار الشعب الفلسطيني، وحاول أن يمد هذا المشروع بأسباب الحياة بواسطة بيع النفط على رصيف الموانئ التي استولى عليها، ولكن بعضًا من القوى الكبرى رأت آنذاك أن مصالحها لا تقتضي قيام مثل هذا المشروع في ليبيا.

كان أيضًا بإمكان الجضران أن يمتطي حصان الدين ويعلن انحيازه إلى قوى الإسلام السياسي التي تسيطر ميليشياتها على العاصمة والمؤتمرالوطني والحكومة

كان أيضًا بإمكان الجضران أن يمتطي حصان الدين ويعلن انحيازه إلى قوى الإسلام السياسي التي تسيطر ميليشياتها على العاصمة والمؤتمرالوطني والحكومة ولاسيما أنه بإمكانه أن يستثمر سنوات سجنه في عهد القذافي بتهمة الانتماء إلى تنظيم المقاتلة الليبية إحدى أذرع قوة الإسلام السياسي مدعيًا بأنه أصيل وليس ملتحقًا بالركب، ورغم أنه اختار في تلك الفترة حصان الجهوية وأعلن عدم تبعيته للإسلام السياسي، إلا أن هؤلاء وجدوا في ما يقوم به الجضران من عبث وتخريب عملًا نافعًا لهم، لأنه في الواقع يقوم بنشر الفوضى والإرباك في معسكر الخصم، الذى بدأ يظهر في شكل قوة عسكرية يقودها آنذاك اللواء خليفة حفتر فأخذت تصطدم مع امتداداتهم المليشياوية في الشرق والتي كانت تمارس كل أنواع العنف الدموي ضد مختلف الفئات الاجتماعية ممّا دفع الغالبية الساحقة من المجتمع هناك إلى الوقوف إلى جانب هذه القوى الجديدة.

لم يكن إبراهيم الجضران ومن خلفه غافلين عن أن الإسلام السياسي رغم الخصومة العلنية معه، يظل حليفًا مرشحًا ومحتملاً في أي مرحلة من مراحل الصراع المسلح في ليبيا، وهذا ما دلل عليه تاريخ العلاقة بين الطرفين حتى هذه اللحظة، فالجضران مفيد لهم سواء قام بدور الخصم أو بدور الحليف، وحتى حين يقوم بتصرفات تقلقهم يسلطون عليه بعضًا من مليشيات مصراته المؤدلجة والمناطقية لتصطدم معه، فيجلب له ذلك الصدام تعاطفًا قبليًا وجهويًا هو في حاجة إليه من جهة الشرق، وهذا في حد ذاته مزعج ومربك لخصمهم الذى أصبح اسمه الجيش العربي الليبي بعد أن نال شرعية وجوده الرسمي من البرلمان الليبي.

حصانا الجهوية والدين لم يكن سباقهما نحو السلطة يجرب في الفراغ الليبي المعزول عن العالم، بل كان خلف كل حصان ملاكه وسائسوه من الخارج

لكن حصاني الجهوية والدين لم يكن سباقهما نحو السلطة يجرى في الفراغ الليبي المعزول عن العالم، بل كان خلف كل حصان ملاكه وسائسوه من الخارج إلى جانب جمهور المراهنين عليه من الداخل، وهذا يعنى أنه يتوجب على الجضران في حالة امتطائه لأي من الجوادين أن يمتثل لمشيئة ملاكه وأن يتبع تعليمات سائسيه وأن يحقق أيضًا ما ينتظره المراهنون على الجواد في الداخل.

في ظل هذا التباين والتعقيدات في العلاقات والمصالح والأطراف دولية كانت أوداخلية، يجرى استثمار الحالة الجضرانية فيطل إبراهيم الجضران على المشهد الليبي في أدوار مختلفة ومتناقضة – كما تبدو للبعض - متقلبًا في تحالفاته بين الجهوية والدين وفي حروبه بين سرايا بنغازي والتنظيمات الإرهابية الأخرى العابرة للحدود حسب ما يعتقد أنه مناسب له وما يتطلبه رضى وموافقة الطرف الدولي الذى يرعاه، غير أن دوره محصور جغرافيًا في منطقة الهلال النفطي لاعتبارات قبلية وجهوية وباعتبار هذا الهلال يمثل أهم أوراق اللعبة الليبية، لأنه هو سرة الاقتصاد النفطي الليبي ومن يسيطر عليه بشكل مطلق ونهائي يصيب خصومه في مقتل.

لاشك أن هجوم مليشيات الجضران الأخير ودخولها إلى منطقة المنشآت النفطية أثار استغرابًا وتساؤلات حول تمكنه من الوصول إلى هدفه وعن الدعم الذى تحصل عليه وكيفية تجميع وتمويل قوة بهذا الحجم وتأمين مناطق إيواء لها تحت بصر القوى الدولية التي ليست كلها داعمة للجضران.

هذا الهلال يمثل أهم أوراق اللعبة الليبية، لأنه هو سرة الاقتصاد النفطي الليبي ومن يسيطر عليه بشكل مطلق ونهائي يصيب خصومه في مقتل

كل هذه التساؤلات التعجبية تجد إجاباتها في تعقيدات خارطة المصالح والعلاقات الدولية والداخلية الليبية، فالحالة الليبية تعد من بين أفضل الحالات العربية قابلية للاستثمار والتدوير في لعبة صراع المصالح بين الكثير من القوى الدولية والإقليمية وذلك بما تمثله من موقع وهجرة وتنظيمات عابرة للحدود ونفط وغاز، ولهذا فقد يكون ما حدث من هجوم على المنشآت النفطية ناتجًا عن تضليل الجضران من قوى دولية تريد القضاء عليه وعلى المليشيات المحاربة معه وذلك لإخراجه نهائيًا من حلبة سباق الجوادين، وقد يكون دفعت به قوى دولية لتحقيق أحد خيارين، إما السيطرة على المنشآت وبالتالي إدخال معادلات جديدة على المشهد السياسي الليبي وإما إحداث خراب في هذه المنشآت يتطلب إصلاحه زمنًا ليس قصيرًا، فليس صحيحًا أن كل القوى الدولية لديها مصلحة في استمرار تدفق النفط الليبي تحت كل الظروف، بل منها من يهمه ارتفاع الأسعار ومنها من يهمه التضييق على بعض منافسيه وخصومه من خلال توقف ضخ النفط الليبي في الأسواق وبعض هذه القوى تهمها الهجرة والغاز أكثر من النفط إذا كان ذلك يؤدي إلى تحجيم أطراف في الصراع الليبي لا يعتبرون شركاء مريحين.

المؤكد هو أن كل يوم يمر على وجود هذه المليشيات داخل المنشآت النفطية يرسخ ويقوي من المشروع الذى تم تكليفها بإنجازه

كيف ما كان حظ أي من هذه الاحتمالات من الصحة، فإن المؤكد هو أن كل يوم يمرعلى وجود هذه المليشيات داخل المنشآت النفطية يرسخ ويقوي من المشروع الذى تم تكليفها بإنجازه.