Atwasat

(4) وجبة خفيفة مع صادق ومنصور

محمد المهدي الفرجاني الأربعاء 20 يونيو 2018, 08:52 مساء
محمد المهدي الفرجاني

أنا أحاول بإجهاد مطلق أن أنفي صفة العمالة عن المعارضة، ولكنها تقف أمامي كأفعى (كوبرا )؛ إنها كذلك! هل الغاية تبرر الوسيلة.إن منطق ميكافيلي  يبدو أحيانا سخيفا، ولكن الظروف قد تكون أحيانا أقوى وأشرس منك  تحاصرك، تغرس أنيابها في عنقك وترغمك على القبول! ولكن حتى وإن كان الأمر كذلك فهو لا أخلاقي ولا وطني!

أنا أعرف - يا سيد منصور – أن كثيرا من الناس حضروا إليك؛ إما من أصدقائك، أو معارفك، أو حتي مبعوثين من قبل نظام القذافي، جميعهم يهدفون إلى عزلك عن المعارضة وإيجاد أرضية مشتركة بينك وبين القذافي ونظامه، وقبل أن أسترسل في استعرض أسماء من حضروا إليك، دعنا أولا، نحدد أوجه الخلاف فيما بينك وبين القذافي ونظامه: أنت ترى في القذافي أنه حاكم دكتاتور، متسلط، منفرد بالمشهد السياسي في الوطن، رؤيته السياسية والاقتصادية محدودة، مستبد بآرائه! يرفض الجلوس مع أي كائن كان ليناقشه في قضايا الوطن وحقوق وواجبات المواطن. وأنت ترى أن القذافي قد اختصر الوطن كله في شخصه، ويرفض أن يشاركه أحد فيه، ولعل نظرية عوائد مبيعات النفط، التي  يرفض أن يشاركه أحد فيها، أو كما قال: ليس من حق الشعب الليبي أن يناقشني في عائدات البترول، ومن يفعل سأقطع له لسانه. القذافي حدد ما يريد، وأنت ترفض ذلك كله، أنت ترى أن الوطن يتسع للجميع بكل خلفياتهم السياسية والاجتماعية ومن حق المواطن أن يعبر عن نفسه، بالكيفية التي يراها  دون إملاءات عليه، بشرط ألاّ تمس حريته حدود حرية الآخرين. أنت تؤمن بوطن أساسه الدستور والحرية؛ تؤمن بحرية المعتقد الفكري والرأي، تؤمن بالدولة المدنية بكامل أبعادها أساسها الدستور وسقفها القانون، تؤمن بالتبادل السلمي للسلطة والاحتكام دائما للعقل ولصندوق الانتخابات.. أنت تؤمن بهذا كله وهذا شيء رائع، وطيب ويبدو مثالي للغاية. ولكن هل القذافي من بعد أن وصل خلال هذه السنوات إلى هذه القناعات يتقبل مجرد النقاش بما تؤمن به؟ أنا لا أعتقد ذلك مطلقا، ولذلك القذافي يرى فيك خطرا شديدا  على نظامه الذي أقنع به الليبيين وهو سلطة الشعب.

إن منطق ميكافيلي  يبدو أحيانا سخيفا، ولكن الظروف قد تكون أحيانا أقوى وأشرس منك  تحاصرك، تغرس أنيابها في عنقك وترغمك على القبول!

نحن الآن  دولة بدون دستور أو رؤية. نحن مجرد بيادق في رقعة شطرنج صنعها القذافي، فنموت في أي خطوة غير محسوبة نقوم بها. لقد تحدد لنا مربع الحركة. الشعب كله يساق كالأغنام للمرعى تحت حراسة الكلاب التي تمنع خروج أية شاة من مغادرة القطيع حتى لو أدى الأمر إلى تصفيتها!.

يا سيد منصور لا تعوّل كثيرا على التغيير في ليبيا؛ فالشعب أعزل لا يستطيع تحت كل الظروف أن يفعل شيئا أكثر من حركة بسيطة أقصاها التظاهر السلمي، المحظور أساسا، وإن تحقق فتوقع بعده الاعتقال والتنكيل. القذافي تبوأ مقاليد الحكم بالبندقية، ولن يتركها إلاّ بها، ولا أرى أن المعارضة تستطيع القيام بذلك.

الشعب لا يعرف ماهي المعارضة، ولن يستبدل شخصا واحدا بأشخاص، لن يستبدل حذاء بحذاء، على الأقل أصبح الشعب يعرف نظام القذافي، ووجد طريقة للتعامل والتعايش معه. ولا أعتقد أنه يريد أن ينتظر ما قد تحضر له المعارضة من أجندات؟

إنني أعتقد أنه يتعين على المعارضة أن تعيد ترتيب أوراقها، وتقدم سيناريو يقبله الشعب ويتعاطف معه. الشعب يكفيه ما ناله من التعالي والتهميش والإقصاء وإملاء الشروط والمشاهد التي لا يعرفها ولا يريد أن يعرفها.

يا سيد منصور، لقد حضر إليك عدة أشخاص لإقناعك بالرجوع إلى ليبيا، وقدموا إليك الضمانات ولكنك لا تثق في الضمانات التي قدموها إليك لمعرفتك بمزاجية القذافي، لقد حضر اليك السفير عاشور قرقوم في باريس مرتين، وهو صديقك ورجل ثقة وطرح عليك الرجوع إلى ليبيا وإنهاء معارضتك للنظام، كما حضر اليك أحمد قذاف الدم في باريس وجنيف، وهو الأقرب إلى القذافي من كل الذين حضروا إليك، وهو أصدقهم لأنه لا يسعى إلى حظوة لدى القذافي ولا منصب، وحضر إليك جاد الله عزوز الطلحي  في باريس للسبب نفسه.

هل بمقدورك أن تجيبني لِمَ اهتمام القذافي بك، دون بقية المعارضين الآخرين؟ دعني أقول لك أنك برفضك لمحاولات القذافي المتكررة، ستدفعه بتكليف من يخطفك أو يصفيك، ليس لأنك منصور رشيد الكيخيا، لأن الاسم لا يعني للقذافي شيئا، أنت بالنسبة إليه مواطن كبقية المواطنين ولكنك تمثل قيمة للمعارضة تمثلت في توحيدها.. وهنا مكمن الخطورة على النظام.  والمنطق يقول أن القذافي يعمل بنظرية فرق تسد، وأنت الآن تعمل لنسف هذه النظرية والقذافي لن يسمح لك بذلك.

القذافي قد اختصر الوطن كله في شخصه، ويرفض أن يشاركه أحد فيه، ولعل نظرية عوائد مبيعات النفط، التي  يرفض أن يشاركه أحد فيها

إنك فعلا تحتاج إلى إعادة ترتيب وقراءة المشهد وتحلله لتقف على ما يجب أن يكون عليه الأمر، واعذرني فأنا لا أعرف أن أتحدث معك عن ذلك، لا تسألني فأنا لا أعرف لماذا؟ لم يعقب، فتدخل صادق  قائلا لمنصور: «هذا هو البدوي الذي حدثتك عنه. أنا أيضا فاجأني مثلما فاجأك، أنا لا أعرف أن جهاز المخابرات العامة أو جهاز الأمن الخارجي في ليبيا له القدرة على رصد الأحداث فيما يخص المعارضة المتواجدة في الخارج...والتفت نحوي واستطرد: «والآن أدركت أن الجهاز لم يكن طرفا في الصراع!»  فعقبت في الحال أن ما قلته هوما أعرفه، وكما تعلم أنا استقلت من الجهاز منذ فترة، وبالتأكيد حدثت تغييرات جوهرية، كانت مؤشراتها هي التي  دفعتني للاستقالة، من بعد أن استبعدت من المشهد فيما تولى عملي ضباط آخرون ينتمون إلى حركة اللجان الثورية: ترأس عبد السلام الزادمة إدارة العمليات ومكافحة الإرهاب وتولى عبدلله السنوسي إدارة المعلومات، ثم تولاها أبو شعراية فركاش، وتولى عزالدين الهنشيري إدارة الأمن المركزي، أما سعيد راشد فتولى إدارة الشئون الفنية. أنا لا أريد أن أتحدث عن إدارة كل منهم، وإنما أريد أن أقول  أن الجهاز كله أصبح في أيديهم، وهم من غير رؤية سياسية وأصبحوا متورطين بالكامل في الصراع بين النظام والمعارضة؛ وهذا هو دافع استقالتي المسببة. فنحن، مثلما قلت من قبل، جهاز لا علاقة لنا بالصراع، مهمتنا رصده؛ لكن أن تكون طرفا فيه فهذا خروج عن واجباته. عموما لقد اكتملت الحلقة في قيادة الجهاز بتعيين إبراهيم البشاري رئيسا له.

وقف الحديث عند هذه النقطة، وأنا أوكد على منصور أن يهتم بأمنه الشخصي لأنه في غاية الضعف إن لم يكن معدوما تماما. ذهبنا لتناول وجبة خفيفة في جنيف القديمة، وسمعت منصور يتحدث مع صادق قائلا أنه لم يكن يعرف أن ثمة جهاز مخابرات في ليبيا يمكن أن تكون فيه عناصر على الأقل مدركة وفاهمة ولكن يبدو أن جبروت رؤية النظام طالت الجميع. وانتهت الوجبة الخفيفة واستأذنت في المغادرة إلى فندقي، وتركت صادق مع منصور. كان ذلك صيف 1988