Atwasat

كأس العالم الليبي كسر العزلة!

أحمد الفيتوري الأربعاء 20 يونيو 2018, 08:17 مساء
أحمد الفيتوري

[الإرهاب لا يمكن أن يسود الناس مطلقا، إلا في حال كونهم معزولين بعضهم عن بعض، وبالتالي فإن أول اهتمامات كل الأنظمة الاستبدادية هو إحداث العزلة. لذا يمكن أن تكون العزلة بدء الإرهاب.]
الفيلسوف الألمانية حنة أرندت.

لست من آل الكرة لكني كروي، فمنذ الصبا لم يفتني كأس عالم، عام 1966م كأس العالم في بريطانيا مخترعة اللعبة ونجم الكرة الأوحد بيليه، تابعت تلكم الدورة من خلال شريط سينمائي يلخص الدورة البريطانية الملابسات والبتلز والفوز، كان ذلك في دور السينما خاصة دار هايتي بمدينتي بنغازي.

عام 70 شاهدت الكأس في التلفزيون الليبي ما افتتح في 24 ديسمبر 1968م، أما 74 فقد تمكنت من جعل جهاز تلفزيون بيتنا خشبة مسرح تعرض اللعبة البشرية في الشارع، حيث تجمهر جمع من كل حدب وصوب،وبدا وكأنهم يعرفون بعضهم وأنهم يشاركون البشر في مشاعرهم،في لعبهم، حيث (الإنسان لا يكون إنسانا إلا حين يلعب، ولا يلعب إلا حين يكون إنسانا) أو كما قال شيلر.

عندئذ كرة القدم الليبية مطاردة في البلاد، عقب الانقلاب العسكري سبتمبر 1969م جاء رئيس مجلس قيادة الثورة الأخ معمر القذافي ليخطب في ساحة مدرسة شهداء يناير الثانوية ببنغازي، لم يجد الجمهور الذي يريد فعاقب حتى العاملين بإدارة الأخبار بالتلفزيون الذي عندها يبث مباراة في الدوري الليبي.

أما 74 فقد تمكنت من جعل جهاز تلفزيون بيتنا خشبة مسرح تعرض اللعبة البشرية في الشارع

الليبيون مثلما المجتمعات المماثلة لم تعد تجمعهم قبائل في لقاءات ميز الفروسية والمبارزة في قارة القبيلة، النوادي هي قبيلتهم العصرية أو كما تصور القذافي الذي أولا ألغى نوادي بدمج بعضها، وألغى أسماء نوادٍ شهيرة، فيما بعد جاء في نظريته العالمية الثالثة بكتابه الأخضر: أن الرياضة تمارس ولا يتفرج عليها.

الفرجة تجمع وتخلق وشائج ولحمة، لهذا كتبت عام 1978م أثناء دورة كأس العالم مقالة بجريدة الأسبوع الثقافي تحت عنوان (كرة القدم ثقافة الفقراء)، مرجعيته الكاتب والمفكر المسرحي اليساري برتولد بريخت من يري: أن أستاد الكرة خشبة المسرح التي تعرض لعبة لأربعة وعشرين ممثلا، والعرض يقدم مقدرات فنية وذهنية تحول العراك والتنافس للعبة مشوقة ومثيرة، ضمن أسس قانونية متعارف عليها، وحكم هو كما المخرج الذي يحافظ على أصول اللعبة التي تجتذب البشر وتوحدهم...الخ.

نهاية العام 1978م سجنت رفقة ( 12 ) من الأصدقاء/ الزملاء من صحفيين وكتاب سرد وشعر ومسرح بتهمة تأسيس حزب شيوعي يستهدف إسقاط النظام والاستيلاء على السلطة، لهذا تابعت دورة 82 من خلال جهاز ترانزستور تم تهريبه في القسم الثالث بسجن الحصان الأسود (بورتا بينتو)، ما كان برج بابل الذي يحفل بسجناء يتقنون أو يعرفون لغات عدة كالروسية والبلغارية غير الانجليزية والفرنسية والايطالية، فمنهم عسكريون درسوا في شرق أوروبا، تلكم دورة فريقي الأزرق إيطاليا –لهذا دورة 2018 م لا تعنيني خاصة أني لست قوميا- فريقي (الكالشو) فاز بالكأس، وقد منحه رمزيا للفلسطينيين من حينها يخوضون مقاومة باسلة لغزو إسرائيل بيروت التي تعيش أيضا حربا أهلية شعواء.

كأس 2014 لم يطله القذافي من سقط نظامه لكن العزلة التي مارس لم تسقط لهذا عايشتُ هذه الدورة في بيتي

العزلة التي نعايشها ونعيشها في السجن كسرها كأس العالم هذا وفي دورة 86 أيضا، حينها الليبيون يعانون تقريبا من منع الدوري الليبي أو على الأقل جعل اللاعبين مجرد أرقام فقد منعت الأسماء لمحاربة النجومية الظاهرة البرجوازية الرجعية!!، وكسر العزلة ظهر كمعارضة للإرهاب الذي يعانيه البشر بالعزلة التي يمارسها النظام الاستبدادي حسبما نظرة حنة آرندت.

كأس 90 خاصة مباراة الكأس في درنة ليلة دخلة الصديق الشاعر أحمد بللو، لقد تجمع جمع المشاهدين السجناء الطلقاء أصدقاء العريس بحجة العرس وبمناسبة  كأس العالم 90 كسروا العزلة، وقد أصبح صبح القذافي عام 88 وأطلق سراحنا، وذلك جاء بعد ضربة جوية أمريكية عام 86 للقذافي عقب التفجير الإرهابي لنادي ليلي ببرلين، ووسم العقيد القذافي في الإعلام الأمريكي: أخطر رجل في العالم!، وبعد حروب متتالية خاضها القذافي وهزم فيها، وانبثاق حروب عصابات تخوضها جماعات معارضة ليبية.

أما عُزلة البلاد فقد تفاقمت مما زاد في عزل الليبيين وحتى تجويعهم (بالخبزه والما قررنا الحياه) وعملا بالمثل الشعبي (جوع كلبك يتبعك)، وقد نمّى الإرهاب الإمبريالي الأمريكي عزلة القذافي فوظفه لعزلة الليبيين.

العزلة كالوحشة منها تتخلق الفردانية فالخوف ويعمم الجهل، في رواية (العمى) للبرتغالي ساراماغوا تصاب بلاد كلها بالعمى الذي يجسد العزلة الفيزيائية بهذا تتحول الحياة إلى حالة خبط عشواء.
كأس 94 الفضاء الالكتروني كسر العزلة فالأقمار الاصطناعية ابتكرت العالم كبيت، ولم تنتبه الأنظمة الاستبدادية بعد لما يحدث فإنهم في غيهم يعمهون وبعماهم يتعيشون.

كأس 98 بث شعورا دوليا بكسر العزلة، فالفريق الفرنسي ما خاض وفاز بالدورة في بلاده فريق من البشر متعدد الأرومة، فريق التشكيل اللوني فيه (زيدان) الجزائري بطل الدورة أيقونة لذا الكسر.
كأس 2002 وكأس 2006 حتى كأس 2010م ذوبان الثلج في ليبيا فالقذافي يزمع التوريث، على منوال الحزب الشيوعي الكوري الشمالي، وحزب البعث العربي السوري أخذ ينسج. لكن ابنه الساعدي أمم الفريق الوطني لكرة القدم، وشرع في الرهان بالرشوة وتبديد الأموال من أجل شراء كأس العالم، لكن هذا من المستحيلات الأربعة هذا ما يعرفه القذافي الأب.

كأس 2014 لم يطله القذافي من سقط نظامه لكن العزلة التي مارس لم تسقط لهذا عايشتُ هذه الدورة في بيتي في عزلة مفرد كالبعير الأجرب، أتابع عبر التلفزيون المباراة بعين وبعين على الباب، فالبلاد دخلت عقب ثورة فبراير 2011م في حرب أهلية والتيار الديني وعصاباته يمارس الاغتيالات، وقتل لي زملاء وأصدقاء وأحباب رجالا ونساء، لكن كأس العالم واللعبة الجميلة تجذب عيني وفي دهشة المغتبط وحيدا أصرخ: قول، هدف، قول، هدف وتردد الشوارع أيضا ذلكم.