Atwasat

"أناركيون" بالفطرة !

صالح الحاراتي الإثنين 11 يونيو 2018, 03:47 مساء
صالح الحاراتي

أذكر في بدايات حدث فبراير واهتمام الكثير من الفضائيات بليبيا وخروج الكثير ممن يدعون أنهم أهل التحليل السياسي وكثر حينها تردد المصطلحات على الألسن.. في غمرة تلك الموجة أتذكر أن الأستاذ المحامى محمد العلاقى وعلى إحدى المحطات قال.. يا سادة لا بد لنا من ضبط المصطلحات حتى تكون الأمور على بينة بعيدا عن الفهوم الخاطئة وحتى لا يحدث اللغط واللغو والحيرة المعرفية... منذ ذلك وأنا كلما مررت بمصطلح ما حاولت تتبع معناه وصرت أهتم بهذه المسألة وأراها جد مهم .

هذا ما بدا لى يوم أن قرأت مسمى "بلشفية" وصفا لمرحلة حكم القذافى.. وأظن أن ذلك التوصيف ورد نظرا لأن شعارات اليسار رفعت إبان تلك الحقبة وحدث ما يشبه احتكار الدولة لوسائل الإنتاج وتم إلغاء كل الأنشطة التجارية والحجر على القطاع الخاص وانتشار الشعارات الاشتراكية، وما إلى ذلك.

التوصيف الأقرب للدقة فيما أظن هو أن ما حدث فى تلك المرحلة يقترب من الأفكار "الأناركية" مع تحوير بسيط تبعا لبيئة المنشأ

وأنا هنا أريد أن أذهب إلى ملاحظة وهي أن التوصيف الأقرب للدقة فيما أظن هو أن ما حدث فى تلك المرحلة يقترب من الأفكار "الأناركية" مع تحوير بسيط تبعا لبيئة المنشأ.. لقد كان دكتاتورنا "أناركيا" لا يؤمن بالدولة وخاض ماراثون التجريب والفك والتركيب لكل مؤسسات وكيان الدولة، حتى اختصر الناس توصيفا لتلك الحالة و أطلقوا عبارة (خض شكارة الفئران) كتعبير دقيق عن حالهم.

لعل هناك من يقول وما جدوى أن نعرف أن ما مر بنا هو محاولة عبثية لتطبيق الفكرة الأناركية؟. الجدوى تتأتى من فائدة اكتشاف أننا ربما كمجتمع أناركيون بالفطرة.

وتناول هذه المسألة هو محاولة متواضعة لإعادة فرز تلك المفاهيم المتناثرة وتصنيفها، وضبط المصطلحات، والمساهمة في إعادة تشكيل المعاني والتدقيق وبلورة كل ذلك بغية امتلاك مزيد من الأدوات لفهم واقعنا المعاش والظواهر والأفعال وتحليلها لجلاء الأفكار والحقائق. وتلك غاية معرفية، وإن كانت تبدو نظرية، فهى معرفة ملتصقة التصاقاً شديدا بما تنتجه تلك الأفكار بالواقع السياسي والاجتماعي، وبالحياة اليومية، وبالتالى مسارات الأفراد والشعوب ومصائرهم، ومن هنا تأتي أهمية ضبط المصطلحات ومحاولة سبر غور المعنى.

فى مصافحة عابرة للمصطلح أشير إلى أن دكتاتورنا السابق فى الغالب كان "أناركيا" ولكن داخل منظومة أنتجتها حقيقة جغرافيتنا - جغرافية الفراغ - التى اتسمت بالترحال وعدم الاستقرار وممر عبور؛ وهو في ظني ليس المنتج الوحيد لتلك البيئة ولكن عبر تاريخنا لم نعرف دولة راسخة إلا بشكل عابر، ولذا ربما نحن كذلك "أناركيون" بالفطرة!!.

الأناركية تعنى اختصارا اللاسلطوية ( anarchism)

أي مجتمع من غير حكام أو حكومة؛ ‏وهي فلسفة سياسية حيث تعتبر أن الدولة غير مرغوب فيها وليست ذات أهمية بل هي مضرّة للمجتمع، و في المقابل تروّج لمجتمع بلا دولة‏ وتسعى لتحجيم أو إلغاء تدخل السُلطة فى علاقة الأفراد فيما بينهم.. وهو ما تم التعبير عنه حينها بالسلطة الشعبية، التحوير الذي حدث فى ليبيا هو تجمع السلطة فى يد فرد وإن كان تحت شعار (السلطة والثروة السلاح بيد الشعب).

أفكار الأناركيين ليست موحدة و قد لايتم الاتفاق فيما بينهم على بعض المعايير المطلوبة فى الأناركية رغم أن الأساس مشترك

على كل حال، أفكار الأناركيين ليست موحدة و قد لايتم الاتفاق فيما بينهم على بعض المعايير المطلوبة فى الأناركية رغم أن الأساس مشترك وفى أحسن الأحوال نجد لديهم اشتراكا فى متشابهات معينة أساسها كراهية الدولة واللاسلطوية.. والأنواع الأناركية عديدة منها أناركية اشتراكية وأناركية شيوعية وأناركيه فردية: (individualist)‏.

وهذه الأخيرة هى التي لفتت انتباهى وهي التي تعنينا فى هذا المقام لأنها بظني تعكس تقريبا نمط حكم القذافى.

وبما أن (الأناركية هي الاعتقاد بأن أفضل حكومة على الإطلاق هو عدم وجود حكومة) فقد سيطرت هذه الفكرة على دكتاتورنا السابق ورفع شعار السلطة الشعبية وتم إلغاء القوانين وهدم كيانات ومؤسسات الدولة رغم أنه كلما ألغى وهدم ركنا من أركان الدولة خرج بعدها بكيان جديد نظرا لحاجته إليه لتسيير دفة الحكم.. واستمر التجريب وتبني الأفكار ثم التراجع عنها بشكل واضح.. ولعل التقاط بعض الجوانب اليسارية فى المشهد الليبى يومها هو الذي أوحى للمشاهد بأن ما يجترحه حاكم ليبيا يميل إلى الاشتراكية.

لنذهب بعدها إلى مقاربة عابرة تقارب بين ما كان يقوله دكتاتورنا السابق مع ما يقوله مثلا سامح سعيد صاحب كتاب “بدايات وتحولات أصل الأناركية“

( ...أنَ الأناركيين يحاولون بناء حركة "أممية" تنسيقية منظمة تهدف إلى تحويل الكوكب إلى "تشاركية" ستكون وثبة كبرى في التطور الإنساني وخطوة "ثورية عملاقة". إنها تغير العالم الذي نعرفه وتنهي المشاكل الاجتماعية التي طالما اجتاحت الجنس البشري، إنها بدء "عصرً جديدً "من الحرية).

هل تتذكرون الحل النهائى والجذرى والتشاركيات وحل المشكل الاقتصادي والاجتماعي؛ والقائد الأممى والإنجازات الثورية العملاقة...إلخ.

ومقاربة للمسألة من ناحية أخرى يبدو أن دكتاتورنا السابق ربما تماهى مع تاريخنا الذي يخلو من كيان الدولة الراسخ، ومع سلوك سائد فى مجتمعنا تعارف البعض على الإشارة إليه بنمط سلوك بدائي فرضته الجغرافيا حيث لا مكان للاستقرار وكراهية واضحة لكل الحدود والقيود بحكم جغرافيا الفراغ التي عليها حالنا.. وربما هذا يدفعنا للقول بأنه وجد بيئة مناسبة تتقبل تلك الأفكار.. أي مجتمع من الأناركيون بالفطرة ويكرهون الدولة ومؤسساتها ونظامها؟.

الملاحظ حتى بعد أن تغيرت أحوالنا وزالت قوة الدولة القاهرة بعد فبراير لم نستطع أن نبني دولة حتى الآن بل ربما لأننا لا نريد أن نبني دولة أصلا!. لاعتبارات مصالح الأطراف المتنازعة من ناحية، ومن ناحية أخرى العقلية البدائية التي نرى بها العالم.

على كل حال هناك من يستخدم المصطلح عندما يراد توصيف حالة بلد ما عند تفكك أو سقوط السلطة المركزية المسيطرة عليه مما يؤدي إلى صعود قوى مختلفة تتصارع للحلول محلها محدثة حالة من الفوضى.. ولكن الأناركية كنظرية وفكر سياسي وكحركة اجتماعية تبلورت في إطار نشأة الحركات العمالية والاشتراكية في النصف الثاني من القرن التاسع عشر.

الانجرار وراء تلك الادعاءات ومحاولة إعادة تجربتها واقعيا يهدد المجتمع حتما بالانهيار والفوضى وهو ما نمر به هذه الأيام

وأكد مفكروها على معنى "اللاسلطوية" التي تعني الغياب التام للسلطة واستبدال مؤسسات الدولة المركزية "بمؤسسات شعبية" أي لا يكون فيها تراتبية هرمية.

على المستوى النظري يقال أن الاقتناع باللاسلطوية ينتج عن الإيمان بالحق الطبيعي لكل إنسان في أن يكون هو وحده "سيد مصيره" وكانت هذه إحدى المفردات المتداولة أيام النظام السابق.. حيث البديل الذي يطرحه الأناركيون للدولة هو أن يدير السكان في مناطق سكنهم شؤونهم اليومية من خلال آليات تبدأ بالجمعيات العمومية للمجاورات السكنية مثلا ؛ (لدينا تم إنشاء الكومونات والشعبيات والمؤتمرات الشعبية ... إلخ). وفشلت كل التجارب التي اجتهد الفرد الأناركي في طرح تصوره لمثل هذه الآليات لإثبات إمكان وضع تصورات عملية ومنطقية للكيفية التي يمكن بها للمجتمع أن يدير شؤونه دون الحاجة لسلطة.. وفشلت كل تجاربه التي حاول فيها إلغاء دور الدولة.

فهل نمضي على نفس المنوال وهل يناسبنا نموذج المجتمع الأناركي وهل نحن لا زلنا أناركيين بالفطرة!؟.

إن ثمن الانجرار وراء تلك الادعاءات ومحاولة إعادة تجربتها واقعيا على المجتمع يهدد المجتمع حتما بالانهيار والفوضى وهو ما نمر به هذه الأيام.

ألم يحن الوقت وبعد أكثر من أربعة عقود في التجريب، أليست مدة كافية لكى ينتهى ذلك الوهم من عقولنا؟.