Atwasat

ركن العامرية ... درنة والدراونة ...

فدوى بن عامر الأحد 10 يونيو 2018, 01:46 مساء
فدوى بن عامر

"حي عليك امُوية سمحة كانت عندنا زمان في درنة.. حلوة اتقول عسل" كلمات بلهجة ليّنة ملحونة على نغمات المزمار الدرناوي لجارة درناوية غاية في الطيبة واللطف والجمال.

المجتمع الدرناوي مجتمع مدني في أصله حضاري في تفاصيله، اختلطت فيه الروح الأندلسية التي جلبتها بعض العائلات المهاجرة من بلاد الأندلس مع الليبيين من ذوي الأصول الطرابلسية وأبناء البادية البرقاوية والقادمين من جزيرة كريت واليهود لتشكل طابعاً خاصًا للمدينة تمثل جليًّا في هندسة مبانيها وياسمينات أزقتها وحدائق بيوتاتها الغارقة بعبق النعناع والحبق والزهر. وأما هواؤها فتتراقص فيه أنغام الموسيقا والشعر، فمن هدير شلالها إلى انسياب ساقيتها ورفرفة طيورها في سماء أوديتها وعلى أغصان بطومها، وخضرة مروجها المرصعة بكل لون بهي بهيج. وأما مزمارها فتغنى على ألحانه الفنانون ومنهم المرحوم المبدع سالم بن زبيه الذي رحل متسائلًا "ونقول يامن نقول ياما يفسرلي هالحِلّامة ونقول يامن"... وكأنه حلم يا سالم ذلك الذي شهدته درنة حينها وتشهده الآن.

المجتمع الدرناوي مجتمع مدني في أصله حضاري في تفاصيله، اختلطت فيه الروح الأندلسية التي جلبتها بعض العائلات المهاجرة من بلاد الأندلس

هذه هي درنة التي في أحضانها ترعرع كل من آوى إليها فكانت في شغل دائم وانشغال بالعلم والثقافة والفكر والفن فأنجبت كبار الشعراء والأدباء والسياسيين والدبلوماسيين والأساتذة والقضاة وفِي كل مجال آخر كان لنسائها ورجالاتها باع طويل.

كل ذلك ولَم يخطر على بال أحد أن يجتاح الفكر المتطرف أركانها ويهز قلبها حتى ارتعشت أطرافها وتقطعت أوصالها فلماذ درنة على وجه التحديد؟. وكيف تحولت تلك الشخصية الدرناوية المرحة، المنفتحة على الآخر المختلف إلى منغلقة ملتحفة بالسواد؟ كيف تحولت سماء درنة الضاحكة إلى وجه غاضب مكفهر ترتعد منه الفرائص؟. أغابت "بريكة صلاحها" كما يقول أهلها بلسانهم الملحون الرقراق كمياه ساقيتها، حين كان لها ساقية جارية!.

ولأن درنة هي أول مدينة بالمعنى "الكوزموبولتن" للكلمة التي يصادفها القادم من الشرق، فليس غريبًا أن تكون المتلقى الأول للرياح المقبلة منه. فحين كانت رياح التنوير عاصفة هناك كان لابد أن ينسحب أثرها إلى المحطة الأولى داخل الأراضي الليبية فكانت درنة، ليس فقط لقربها الجغرافي من المشارقة وإنما لطبيعة أهلها الذين فطنوا مبكرًا إلى أن المستقبل للعلم والتعليم، فكانت السباقة في إرسال أولادها وبناتها للمدارس الحديثة، وتم تشكيل أول فرقة مسرحية في عشرينيات القرن الماضي إلى جانب دور العرض وهكذا انطلقت منها حركة ثقافية واعدة فكانت درنة رغم قلة عدد سكانها مصدر إشعاع لكل الوطن بفضل تميز الكثير من أهلها الذين كان لهم دور أساسي في قيام الدولة الليبية الحديثة.

على ما يبدو فإن الشخصية الدرناوية كانت قد تخلصت من تسلّط الانتماء القبلي ربما بحكم الاختلاط بين أهلها الذين وفدوا إليها من كل مكان كما سبق الذكر. ولكن هذا الاختلاط أدى كذلك إلى اختلاط القيم، فمن المعلوم أن قيم البادية تختلف عن تلك التي في المدينة. فالأولى تسود فيها قيم الشجاعة والإقدام والفروسية والتمرد والجود بينما قيم المدينة يسود فيها الخضوع للحاكم والاستكانة له والنظام والامتثال للقانون وبالتالي ينحو الإنسان فيها لصبره إلى العمل والعلم والتعلم.

وبتمازج أبناء البادية مع أبناء المدينة تتمازج القيم وتختلط مما قد يولد الازدواجية في الشخصية، كما أشار بذلك الباحث علي الوردي وذلك لخضوع الفرد سواء من أبناء البادية أو المدينة لنوعين من القيم، وقد يكون هذا ما خلق التناقض في الشخصية الليبية عمومًا، تلك الازدواجية التي باتت سمة من سمات الشخصية الليبية لم يفلت منها أحد إلا من رحم ربي. فَلَو نظرنا على سبيل المثال للحائط الأزرق لليبي متوسط التعليم أو حتى جامعي سنجد الأدعية والابتهالات الدينية في منشور يتبعه منشور سب وشتم وقذف وقذع وقدح، كذلك حال "المثقف" أو "الشاعر" أو من هو من "النخبة" ستجد أبيات شعرية أو نثرية غاية في الرقة والجمال في نص متبوع بآخر دميم همّاز مشاء بذميم لا يخلو من التحريض على شخص بعينه أو منطقة أو مدينة.

عندما غابت شموس التنوير هناك لتحل مكانها غيوم الظلام الفكري كانت درنة أول من تأثر بل باتت بؤرة له

وعودة لدرنة والدراونة، فقد انصهر أبناؤها داخل بوتقة المدينة فخف أو ربما انتهى لديهم الولاء القبلي أو لعله انحصر في أضيق ما يمكن وبالتالي انفتحوا على التأثر بالقادم إليهم من الشرق تحديدًا لكن التأثر كان في الحالتين أعني إيجابًا وسلبًا. فعندما كان عصر النهضة والتنوير بازغًا هناك سطع على سماء درنة أيضًا فازدهرت المدينة وأزهرت وهبّ عبيرها ليعمّ أرجاء الوطن وعندما غابت شموس التنوير هناك لتحل مكانها غيوم الظلام الفكري كانت درنة أول من تأثر بل باتت بؤرة له. وقد ساهمت ازدواجية الشخصية الليبية في احتضان القادم إليها دون كبير عناء ومع قوة التيار الظلامي الوافد وضعف المقاومة له سواء على المستوى الفردي أو الجماعي أوالسياسي خلال كل العقود الماضية حصل التحول الاجتماعي الكبير الذي نرى نتائجه الوخيمة الْيَوْم مخيّمة على الوطن حتى أردته صريعًا مخذولا.

وتبقى الحكاية الدرناوية ياسالم، تبقى حلمًا يبحث عن تفسير.