Atwasat

سقف التعايش في أزمة الحوار الليبي

صالح السنوسي الثلاثاء 05 يونيو 2018, 07:26 مساء
صالح السنوسي

كشف اللقاء الأخير في باريس بين أطراف الصراع الليبي بأن سقف الضرورة بين أطراف هذا الحوار يبدو متحركا إلى الحد الذي يجعل بعض الأطراف المتحاورة يعتقد انه بالإمكان زحزحة هذا السقف الضروري المشترك لتحل بدلا عنه مصلحته كضرورة مشتركة يقبل بها جميع الأطراف كسقف لايعلو فوقه آخر، ويبلغ الأمر أقصى خطورته عندما نعلم أن الوطن وما يمثله من مصلحة عامة هو ذلك السقف الذي يحاول كل طرف أن يجعل من مصلحته بديلا عنه كسقف يجب أن يستظل به الجميع.

إن إصرار كل طرف على محاولة إلغاء الطرف الآخر، بل وتقمص الوطن، متأت من غياب ثقافة التعايش التي يفتقدها الليبيون. فلا شك أن الثقافة التي ورثوها جيلا بعد جيل لاتنطلق من مسلمة التعايش القائم على مبدأ المساواة، بل تقبل فقط باحتمالية التسامح المقنن المشروط، فالآخر يستمد وجوده ومغايرته من تسليمه بدونيته، فاختلافه لا يعنى إلا أنه على باطل في مواجهة الحق واليقين، وبالتالي فإن هذا الاختلاف لا يجعل منه ندا يجادل ويعترض، بل عليه أن يقبل بما يمكن أن يحصل عليه على أنه هبة وليس على أنه حق خالص من جملة حقوق مختلف الأطراف والتي يتشكل منها سقف يمثل المصالح المشتركة التي تفرضها ضرورة التعايش بين أطراف الجماعة.

إصرار كل طرف على محاولة إلغاء الطرف الآخر، بل وتقمص الوطن، متأت من غياب ثقافة التعايش التي يفتقدها الليبيون.

فإرث عدم التعايش هو الذي يؤطر النظرة إلى الآخر السياسي وإن كان ينتمي إلى الإرث والثقافة نفسها، لأن الإشكالية الحقيقية تكمن في رفض وعدم قبول التعايش مع الآخر المغاير والمختلف كند يسعى إلى تحقيق رؤيته السياسية حسب قواعد اللعبة الديمقراطية وتحت سقف التعايش والضرورة المشتركة، لذا فإن الرفض والعداء لهذا المختلف سياسيا ليس بأقل حدية وضراوة من رفض المختلف ثقافيا ودينيا.

إن هذه النظرة وهذا الموقف من مفهوم التعايش ليس منبعه من هذا الإرث فقط الذي لايقتصرعلى الليبيين فقط، بل يشاركهم فيه كل العرب، وإنما هناك سبب آخر تمثل في تلك التجربة التي عاشوها طوال أكثر من أربعين عامًا.

فقد عاش الليبيون تجربة سياسية كانت في الواقع تطبيقًا حرفيًا لإرث عدم التعايش مع الآخر السياسي.

كان الآخر السياسي طوال  هذه التجربة يُعـد خائنًا وعميلًا ورجعيًا وهو في النهاية مجرم يجب تصفيته جسديًا وإلغاء وجوده المادي لكي يخلو الفضاء السياسي للأنا التي لاتقبل التعايش مع الآخر المغاير لها والمختلف معها،  فالنظرية العالمية الثالثة أتت بالحل النهائي لكل الإشكاليات المطروحة على البشرية منذ نشأتها إلى أن تقوم الساعة ومن هنا جاءت أبدية الفاتح كثورة،  أي أن كل الأجيال التي ستأتي في العصور القادمة وإلى نهاية الدهر، ليس أمامها من خيار سوى طريق ثورة الفاتح  شاءت أم أبت ولهذا فإن من يدعى الاختلاف السياسي، لايكون إلا خائنًا أوعميلًا أورجعيًا أو قاصرًا عقليًا في أفضل الفروض، وبالتالى ينبغى الحجر على تصرفاته.

عندما سقط نظام القذافي وسط العنف والدماء والفوضى ، تفجرت كل مكبوتات التجربة الأربعينية وتلقفها إرث عمره أكثر من ألف عام يرفض ندية الآخر المختلف والمغاير، بالإضافة إلى مفارقة أخرى زادت من حدة اشتغال الإرث والتجربة، وهو أن القوى الداخلية التي أسقطت نظام القذافي لم يكن يقودها تيار قوي وغالب، بل كانت الخلافات التي بين بعض أطرافها لا تقل عن التناقضات التي بين أي منهم ونظام القذافي، فبعض هؤلاء ثاروا على القذافي لأنه فقط كافر وزنديق ولم يراع حدود الله، وبالتالي فقد رأوا بعد سقوط القذافي – في كل من لا يقاسمهم هذه الرؤية علمانياً كافرًا وعداءه للإسلام ودولته لايقل خطرًا من الطاغوت القذافي، بينما ثار البعض الآخرعلى القذافي لأنه يرى فيه كائنًا سياسيًا قمع حرية التعبير، والاعتقاد وصادر حق الاختلاف والتعددية السياسية،  والتداول السلمي للسلطة، ويرون فيمن لايقاسمهم هذه الرؤية  طاغية ومستبدًا هو والقذافي سواء بسواء.

الديمقراطية بالنسبة لبعضهم  صندوق يمكنه من الظفر بالسلطة واستبعاد المنافس له وليست منظومة من القيم والمبادئ والمفاهيم

انطلق الاتجاهان كل حسب وجهته وبقناعة من يؤسس طريق الحق الوحيد المطلق الذي لا يأتيه الباطل لا من خلفه ولا من بين يديه ودون أن يأبه بأن شركاءه الآخرين قد اختاروا طريقًا مختلفًاعن طريقه.

طبقا للإرث والتجربة الأربعينية، فإن كل منهما" التيار المدني والتيار الديني" يرى في نفسه أنه هو البديل الصحيح عن نظام القذافي وهو الذي طال انتظار الناس له وأن الآخر مجرد وجود شاذ أتت به ظروف الفوضى والزحمة والانفلات.التي فتحت الباب أمام كل من يريد أن يشارك في إسقاط نظام القذافي بما في ذلك قوى دولية كثيرة شاركت تحت مظلة قرارات الأمم المتحدة.
طبقا للإرث والتجربة الأربعينية، فأن كل طرف يرى نفسه على حق وأن الآخر على باطل وهالك لا محالة.

طبقًا للإرث والتجربة، فإن كل منهما لايسلم بجواز خطأ بعض مما يعتقد بصحته، بل بعضهم ولاسيما التيار الإسلامي يرى في القول بنسبية الحقيقة كفرًا بواحًا يوجب إقامة الحد على قائله.
لهذا كله فإن قبول هذه الأطراف في بداية التجربة الديمقراطية، بالاحتكام إلى الصندوق  الانتخابي لإنتاج السلطة السياسية، لم تكن بالنسبة لمعظم الأطراف سوى وسيلة للاستحواذ على السلطة وصنع القرار وإخراج الآخر ليس من دائرة السلطة فقط بل أيضًا من المشهد السياسي،فالديمقراطية بالنسبة لبعضهم  صندوق يمكنه من الظفر بالسلطة واستبعاد المنافس له وليست منظومة من القيم والمبادئ والمفاهيم  التي تؤطر السياسة والثقافة والفكر وترسم حدود العلاقة بين الفرد والمجتمع.

إن هذا التناقض قد يكمن سببه في أن انتفاضة السابع عشر من فبراير أفرزت تغيرات سياسية، ولكنها لم تمس الإرث الألفي ولا التجربة الأربعينية، فهما اللذان قلبا التنافس السياسي السلمي على السلطة إلى صراع مسلح وذلك عندما فشل أحد الأطراف  في الحصول على السلطة من صندوق العجائب الانتخابي فامتشق السلاح، وحينما رأى الفائز في فوزه  استبعادًا لخصمه من السلطة والمشهد السياسي معا.

لاشك أن هذا التناقض يتغذى على إرث ثقافة رفض التعايش، التي كانت حتى الآن خلف الفشل في تطبيق بنود الحوارمنذ ما يزيد على السنتين ،.لقد ظلت هذه الأطراف طوال  سنوات الحوار تنطلق  من فرضية  التوافق بين المختلفين ولكن ثقافة رفض التعايش والاختلاف ظلت تقود العقل السياسي للمتحاورين فجعلت كل طرف منهم لايرى في التوافق سوى مرادف آخر لمفردة الإقصاء.

لعل اللقاء الذى تم في باريس على خلفية المبادرة الفرنسية وما صدر عنه من بيان حمل التزامًا شفهيًا من جميع الأطراف ، أثار تساؤلا حول ما إذا كان هذا اللقاء سيكون منعرجًا إيجابيًا  في مسار الصراع ، أم أنه لن يصمد في مواجهة  التعنت وثقافة عدم التعايش فيبقي مجرد" زردة" رمضانية في باريس.

لعل الإجابة عن هذا التساؤل تقتضي معرفة ما إذا كان دافع الجميع إلى هذا اللقاء هو خوفهم من تهاوي سقف الوطن فوق رؤوسهم جميعًا، أم كان ذلك توقيًا من تهمة العرقلة ومحاولة الالتفاف حولها.