Atwasat

الشخصية الليبية ودفاعات التكيف ــ 2

سالم العوكلي الإثنين 04 يونيو 2018, 12:14 مساء
سالم العوكلي

كما أسلفت، كانت الطبيعة وطرق كسب الرزق، واختلاف جيران الأقاليم من مجتمعات أخرى، تشكل خصائص مختلفة في بعض التفاصيل وإن كان بينها مشترك قد يتجاوز حتى حدود القطر. فثمة خصائص فرضها الصيد في البحر كوسيلة لكسب العيش، وخصائص فرضتها الزراعة، وخصائص فرضها الرعي، وخصائص فرضتها التجارة، وخصائص فرضها العيش عن طريق القرصنة أو قطع الطرق التي راجت في فترات مختلفة في مناطق القحط في هذا الجزء من العالم حين تنضب مصادر العيش الطبيعية.

لكن ثمة منعطف مهم مر به هذا الكيان وسكانه حين تحول النفط المكتشف إلى مصدر عيش وحيد للجميع، وفرضت هذه المركزية الاقتصادية مركزية سياسية للمرة الأولى في هذا القطر، أدت في النهاية إلى إنتاج دولة إكراه استطاعت عبر هذه الثروة التي حولتها إلى اقتصاد ريعي إلى فرض الكثير من السلوكيات المشتركة حين توحدت وسيلة الحصول على الرزق التي تتجه كلها صوب هذا الكنز الذي ولد خصائص سلوكية مرتبطة به إلى حد كبير، أستطيع أن أخمنها في تفشي ثقافة الاتكالية والاستهلاك، وانعدام الروح التنافسية المنتجة، والحسد الناتج عن التفاوت الطبقي وعن الزحام في حيز ضيق قرب هذا المصدر، كما أن معادلة الثروة الكبيرة في مجتمع صغير تحفز ظاهرة الفساد حين تضعف وسائل الرقابة، بل وتروض من وقع مفردة السرقة التي تحولت في الذهن الشعبي إلى نوع من الشطارة التي تتطلب في بعض الأحيان حسدا لصاحبها أكثر من تطلبها للعقاب القانوني أو الاجتماعي.

هذا المنعطف تمثل في تضافر الثروة النفطية مع أيديولوجيا "عصر الجماهير" الساذجة والمثابرة، التي صرف قدر كبير من هذه الثروة من أجل تكريسها كثقافة دوغمائية في أذهان الجماهير، التي تحولت في ظل مركزية الثروة والسلطة إلى كتل مائعة يسهل التلاعب بها.
من باب التكيف الضروري مع إجراءات الأيديولوجيا الجديدة تغيرت الكثير من الميول والسلوكيات لدى أغلب الليبيين، وأصبح الحديث عن الشخصية الليبية في الثمانينيات مختلفاً إلى حد كبير عن الشخصية الليبية في الستينيات. ولم يخلُ الشعر الشعبي ولا حتى الأغنية أو أحاديث المقاهي والمرابيع من بكائيات ترثي لتلك القيم الآفلة التي تمتعت بها الشخصية الليبية، ولم يكن الأمر مجرد نوستالجيا أو حنين إلى الماضي، ولكنه انتباه لتحولات مفصلية في سلوك أفراد المجتمع فرضتها تغيرات الحياة وغريزة التكيف مع الظروف الجديدة.
إدارة الزحام هي مهمة سياسات الدولة الحديثة، التربوية والتنموية ، وبالتالي فمجال الإدارة بصفة عامة هو الأداة الناجعة لهندسة العلاقات الاجتماعية وبرمجة المصالح الفردية بشكل يجعلها تصب في إطار المصلحة العامة، لكن ما حدث أن الإدارة نفسها وما يضبطها من قوانين كانت هدفا رئيسيا لرؤية السلطة من أجل تقويضها وخلق أسلوب إدارة جديدة "الإدارة الجماهيرية" يخدم رؤيته في التحكم في الجماهير، وهي إدارة لا تُستقى أو تُعلم في معاهد أو أكاديميات، لكنها ترتجل من خلال التعامل المباشر مع الواقع، وهو الأمر الذي جعل الكفاءة والاحترافية تتراجع إلى الخلف، وأنتجت هذه الظاهرة التي كانت تنمو بإطراد نوعا من تكيف الشخصية بشكل جعل التسيب سمة لها والاختلاس الذي كان قبل عقود جريمة اجتماعية كبرى قبل أن تكون اقتصادية، جعلته إحدى الطرق المباحة للوصول إلى الثروة التي يتصارع عليها الكثيرون ويحشدون نشطاء قبائلهم من أجل الوصول إليها.

ثمة منعطف مهم مر به هذا الكيان وسكانه حين تحول النفط المكتشف إلى مصدر عيش وحيد للجميع


يتحدث الليبيون عن زمن كانت محاولة إعطائك رشوة لموظف ليبي إهانة لكرامته ومسا لشرفه قد تدفع ثمنه باهظا، ومع الوقت أصبحت الرشوة علنية مثل الضريبة أو الأتاوة المشرعنة، بل وصل الأمر إلى تسمية جهاز الإدارة الليبية بإدارة العسل.
أعود لأقول إن كل هذا كان من باب التكيف الذي من الممكن أن يحدث لأي مجتمع يتعرض لما تعرض له المجتمع الليبي. لكن ينقلنا إلى سؤال آخر: هل ثمة شخصية ليبية راسخة قابعة داخل هذه الطبقات من الغبار والصدأ يمكن أن تلمع من جديد حين تزال مصادر هذا التلوث الذي فرضه التكيف؟. لا أعرف، لكن ما أدركه أن الشخصية الإنسانية مثلها مثل الهوية ليست معطىً ثابتا، إنها متغيرة ومتحولة وفق آليات صراع البقاء وحسب ميكانيزمات التقدم التي يفرضها إيقاع الحياة الجديدة وطبيعة تبادل المصالح، مع ملاحظة أن القدرة على التكيف قد تكون إيجابية بقدر ما هي سلبية، حين يدار المجتمع بطريقة تحفز تلك الكوامن الإيجابية في البشر والدفع بها في مجال التنافسية الذي تحكمه المواهب والقدرات والمؤهلات والرغبة في النجاح المهني، وحين يكون العقاب العادل هو رد الاعتبار الذاتي لمن اختار النزاهة سمة لسلوكه.
قدرة الليبيين على التمدن والانضباط والالتزام بالقانون أثبتوها فترة الدولة الملكية المؤسسة التي استفادت مما زرعه الاستعمار الإيطالي، ومن ثم الإدارة الإنجليزية، في الشخصية الليبية؛ من احترام للزمن وللمنصب وللقانون وممثله كقيم مدنية حديثة، بالتمازج مع قيم اجتماعية أصيلة نجدها بغزارة في ملاحم الشعر الشعبي، وفي الكثير من الأمثلة الشعبية، والتعابير السائرة، التي تعكس إلى حد كبير منظومة القيم الأخلاقية العرفية التي يتفق عليها أي زحام بشري يسعى لتجميل حياته.

قدرة الليبيين على التمدن والانضباط والالتزام بالقانون أثبتوها فترة الدولة الملكية المؤسسة


ثمة أمثلة أخرى كثيرة عن مؤسسات أدارها أكفاء مخلصون في قلب الفوضى الليبية، جعلتها كأنها جزر معزولة من الانضباط وكفاءة الأداء، تثبت أن القدرة على التكيف الإيجابي ممكنة حين تكون الظروف المحيطة محفزة له، وحين يكون النظام والقانون مطبقا على الجميع.
المفارق في الأمر، وربما لكي ندرك أن العمل على تحريف الشخصية الليبية كان لا يخلو من تعمد، أنه إذا كتبت عن مسؤول كفؤ تشيد بجهوده في ذلك الوقت فستتسبب في إزاحته من منصبه، ما جعلنا في جلساتنا الخاصة ندعو بعضنا لتحاشي الكتابة عن المسؤولين الناجحين حتى لا نشي بهم وننبه السلطات إلى أن ثمة قطاعا يسير على ما يرام، بل إن البعض اقترح أن نهاجم هذه الكفاءات ونتهمها بالقصور لتظل في موقع مسؤوليتها. هذا ليس طرفة أو شطحا من الخيال، لكنه نقاش جاد حصل كثيرا في جلساتنا ككتاب وصحفيين.
هندسة الشخصية التي تحمل الجنسية الليبية؛ والذي استمر لعقود وفق الأطروحات النظرية الجديدة لطبيعة المجتمع الجماهيري، كان برنامجا مثابرا، شاركت فيها طرق التعليم والمناهج، والمنابر الإعلامية التعبوية، ومراكز أشبال وبراعم وسواعد الفاتح، والدورات العقائدية، والبيئة الإدارية التي علقت المصالح وفق مدى الاستجابة النفسية والذهنية لهذه الهندسة، وكان للنفط كركيزة للاقتصاد الريعي دور كبير في نجاح هذا التخطيط المبرمج للمزاج الليبي الذي تناغم مع هذه الفوضى غير الخلاقة، وانهمك في منظومة العلاقات الجديدة التي اتسمت بخصائص سلبية شاعت بشكل ملحوظ، مثل: الانتظار والاتكالية والاعتماد على الدولة في كل شيء والعقلية الاستهلاكية وثقافة الياغمة والانتهازية والوشاية. أما الفئة الناقدة أو الناجية فتكفل بها النظام بطرق أخرى.