Atwasat

بين الفكر والسياسة

عبد الكافي المغربي الأربعاء 30 مايو 2018, 01:01 مساء
عبد الكافي المغربي

يتراءى للبعض أن الفكر منفصل عن السياسة انفصالًا مطلقًا، بحكم الألفة التي تجمع بين الفكر والحكمة، وما تنتظمه من مثل تسمو على الواقع الخائن، والإيمان الإيجابي الذي لا يعدله إيمان. وعلى النقيض تقف السياسة، مقرونة بالواقع، منتبذة عن الأخلاق، مجردة من العاطفة، تجري بدقة الحساب وموضوعية العلم. ونعرض هنا رؤيتنا التي ترافق موكب أكثر ما قرأنا عن محاولة التقريب بين السياسة والفكر. ونقصد السياسة كعلم، كفلسفة، لا شيئا آخرَ شبيها من حيث التركيب، بعيدا من حيث المدلول، مما تلوكه ألسنة محللي الإذاعات في هذه الأيام.

إن الإمساك بشتات الفكر والسياسة وتقديم مزيجهما إلى القارئ في إبان الجو الكئيب الملبد الذي يلم بالمنطقة لمحاولةٌ خليقة بأن تستلب من الباحث وقتًا طويلًا وجهدًا عريضًا، إلى الاضطراب الذي يكتنف هذه المحاولة ويجعلها غير استنتاجية. وليس من شك أن تغلب البرجوازية على الفكر كامن وراء الضبابية التي تسود سائر العلوم الإنسانية.

السياسة في مفهومها التقليدي ميدان واسع للشهرة والثروة ما وجد الكاتب قارئًا والسياسي مؤيدًا. لكنها في الوقت ذاته لا أخلاقية، وكان أرسطو قد خلع عليها هذه الطبيعة السلبية عندما قام بتطليق السياسة من الأخلاق في إرثه الفلسفي العميق. ولربما بتأثير من الفكر الوافد بارك المسيح طلاقهما وأشفق أن يصيب رسالته من أوضار الحكم دنس.

وتمخض الفكر متأخرًا جدًا عن فلسفة الحكم، التي تعد من أهم إبداعات فلسفة التفاؤل والتقدم في عصر التنوير. وقديمًا كان الفكر حكرًا على أهل الاختصاص الذين قطعوا بينه وبين الأرض الأسباب. غير أن طلائع النور التي أضاءت باريس لم يتقدمها الأكاديميون الكاثوليك، كلا، بل طائفة من المفكرين الأحرار الذين اندفعوا أول ما اندفعوا إلى ميدان السياسة.

ليست فلسفة الحكم أو ما بات يعرف اليوم بالفلسفة السياسية وليدة عصر التنوير بالفعل، وفلسفة مكيافيلي النفعية شاهد على هذه الحقيقة. وإن ظلت الحكومات الإمبريالية تنطلق من تعميمات مكيافيلي الوصولية فإن مبادئ عصر الأنوار التي قربت السياسة من الأخلاق ما برِحت تلطف الحكم بقيم أنسانية وفلسفة مستقبلية سلك الفكر طريقه منفردًا والتقى في آخره بالسياسة، ولا يزال الاثنان في تفاوض يهدف إلى التقليل من غلواء العلم في السياسة، وراديكالية المُثل في الفكر. وفي حين يتناول الأدب الكبير الرجاء بالتغيير السياسةَ فيما ينطوي عليه من رسالة باطنية غايتها أن تتفادى من تحرش السلطة، ابتلي الفكر، والفكر السياسي بوجه خاص، بتصنيفه للمقال الصريح في نقد نظام الحكم، وكذلك يستسخف المفكر إذا كتب عن تعزيز الأخلاق. ولعل السياسة في حاجة إلى أخلاقية وحكمة الفكر أكثر من حاجة الأخير إلى واقعيتها. والحق أن معركة الفكر، خاصة بعد أن هُزِم حليفه الأدب في منطقتنا، غيرَ مضمونة النتائج.