Atwasat

جلد على عظم

محمد المهدي الفرجاني الأربعاء 23 مايو 2018, 02:36 مساء
محمد المهدي الفرجاني

تمضي الأيام وتمتصك وأنت لا تدري، ثقتك كبيرة في الغد، يحدوك الأمل في حياة أفضل. أنت، أيضا، تعيش بالأمل وتسعى نحو الهناء، ولكن الأيام تأتي دائما بما لا يمكن التنبؤ به.. الغد في يد الرحمن، والأيام دائما حبلى بالجديد تلد وكأنها بشر.

في أحيان كثيرة تقف في مفترق طرق؛ متسائلا: "في أي اتجاه تسير" ولكنك لا تقرر شيئا فتنطلق إلى لا مكان، إنها طريق قُدر لك أن تسيرها، ولكن السؤال: "هل ستكمل المشوار، أم تقف في المنتصف، أم تقرر الرجوع؟".. حيرة وقلق تغلّف في ضبابية النفس الحائرة!.
تهاجمك الذكريات كضبع مسعور؛ بالأمس يا صديقي كنت هناك في الشمال.. حيث كل شيء جميل، وقادتك قدماك إلى مدينة (لوليا)، هناك في شمال السويد، عند قبعة العالم الشمالية.. وتنهشك إحدى الضباع وتعود بك إلى بلدك الأفريقي الأسود، ويغمرك الحنين.. هناك طفولتك وصباك.. هناك شبابك بأماله وأحلامه وآلامه! هناك أنت. وتطرد الضبع المسعور. هناك حياة، وهنا حياة أفضل.

ذكرياتي هنا وهناك، أيضا، هنا حياة أفضل أفضل بكثير. وتنهشك الضباع المتربصة، عندما خفق قلبك أول مرة بحب أول أنثى، أحسست بها ولكن في بنغازي لنا دائما أحلامنا لا أخلاقية؛ تحلم بالمرأة ليس كشريكة، تكمل معك مشوار حياتك، وإنما خلقت فقط لإمتاعك! ليس أكثر من ذلك، وتطرد الضبع الشرس، الذي هاجمك بقوة، إنه جائع حتى النخاع فقضم من مؤخرتك ما يكفيه.. وتتألم في صمت! تجلس، يا صديقي، في ركن قصي هناك عند شجرة الصبار، ولكن بقية الضباع أبت أن تتركك في عزلتك، تتربص بك تريد أن تقضي عليك.

هناك في (لوليا) عرفت أنه كان لديك وطن، رغم فقره، وسطوة طغاته، والعسف والظلم ورياح القبلي، وأسراب الجراد الجائع على الدوام، ونقيق الضفادع في الشتاء، والسبخة وأسراب البعوض والذباب.. كل ذلك لا ينسيك حنينك الجارف إلى بنغازي وأزقتها وحواريها.. وشجار الصبية وصراخهم عند قيلولتك، والمجاري، والتقازة الزنجية التي تخبرك عبر حركة طرح الودع وقطع الفحم وقطع الصوان الصغيرة الملونة، فيما تتأمل عروق كفها النافرة، وهي تخبرك عن أفراح الغد الآتية بعروس البحر مبهجة لياليك.

وعند الفجر يأخذك النوم، وترى فيما يرى النائم أن أحدا هز أصبع قدمك الكبير، وأخذ يحكي لك قصص لوليا والسويد والنرويج وفنلندا، وفوقها قصة هروبك ليلة زفافك من تلك اليهودية في تلك القرية القريبة من (كوبنهاجن). أن تكون بلا وطن، فهذه دعوة قبيحة للضباع كافة أن تهاجمك وتجعل منك مائدة ملكية.. تأتيك ليالي الأمس كلها والأصدقاء، وتتكالب عليك الأوجاع. أن تكون بلا وطن يعني أنك بلا هوية أو انتماء. لعنة أبدية لا نهاية لها.. أنت بلا وطن يعني أنك بلا صديق، بلا رفيق، بلا كتف يرتاح عليه رأسك المثقل بالهموم.

أنت الميت الحي عندما تكون بلا وطن، وليس من رائحة تضاهي رائحة الميت الحي في جر أنوف الضباع الجائعة إليك. ولكن الضباع الجائعة تأففت منك فأنت مجرد عظم على جلد، كريه الرائحة. لم يطل تمعنها فيك، حتى قررت أن تتركك تموت وحدك، فأنت لم تعد أكثر من وليمة لدود الأرض.. مجرد جلد على عظم.. كائن بلا وطن!.