Atwasat

المساواة في الفقر

عبد الكافي المغربي الثلاثاء 15 مايو 2018, 02:07 مساء
عبد الكافي المغربي

كان الإنسان الأول الذي لا نكاد نستخرجه من بطن التاريخ راضيًا محبورًا بالشيوعية الأولى التي شملت كافة شؤونِه، وتقدمت النظم البدائية التي تلاحقت في غمار طموح الإنسان للاستقرار وما يطلب من عيش هنئ مستطاب. بَيد أن البشر استهلوا دهرًا ممتدًا من الكفاح المرير مع قيام الملكية وتطور المجتمع الزراعي، وأيقظ انتخاب الموهوبين والماكرين للوسائل التي ترفعهم فوق السذج والكسالى المشاعر العدوانية التي ظلت تقود عجلة التاريخ الساحقة، وكان تخلي الرجل البدائي عن الحياة الهمجية وتوقفه عن التجوال، بحسب صاحب كتاب تطور المتع البشرية، شرًا لا بد منه. ومنذ العصور الغائرة في ذاكرة الزمان، كان التاريخ يتقدم يدفعه أولئك المنهكون من البذل في سبيل الحفاظ على مكاسبهم، وأولئك الذين استضافهم الحرمان، فيتوسلون للوثوب على أعدائهم، ويحفون بكل داعية يناصر مطلبهم المقدس: المساواة. لقد بذلت البشرية، وما زالت تبذل لاستعادة ما كان تحت يدها هممًا عظيمة وموارد عريضة، كأن إحراز تقدم أو تحقيق تغيير لا يقاس إلى هدم بنيان قائم فيما يستغرقه هذا وذاك من وقت وما يتطلبه من سعي.

وهبطت الأديان جميعها على الوعي الإنساني لتعزز مُثُل المساواة وتؤسس مجتمعًا اشتراكيًا مؤقتا. وظهرت مثالية كل نبي على كبراء قومه الذين استشفوا في دعوته تهديدًا لسطوتهم، لكن ما إن يتوفى النبيَ ربُّه لما أن نجح نجاحًا كاملًا، حتى تجتمع أرستقراطية تالية تعلو على المطحونين أصحاب الحق، ويمسي احتجاج الفقراء هرطقة ومروقا من الدين الذي أصبح يحمل لواءه السادة المُحْدَثون.

وتوالت مدارس الأخلاق تهدي المساواة تقريضها، وتملي التشريعات التي تحد من سلطان الأقوياء. وكانت فكرة المساواة تتقدم ببطء واثق يتكاد لا تُسمع لها خطى، وكان المثاليون يتألمون من الواقع المخيب ويرثون للمحرومين، في عصور لم يتح للفقراء والأرقاء فيها أن يطلعوا على ما يملك السادة أو كيف يحيا المُتْرفون.

وفي أوروبا المستنيرة خير معلم لنا كانت المذاهب الدينية والفلسفات الأخلاقية ومدارس الشكاكين بل والفلسفة التجريبية والعلم تخدم المساواة في نضالها العنيف إزاء طغيان وكبرياء الطبقة الحاكمة، وكانت تؤدي للأخيرة هذا المعروف بغير علم منها في أكثر الأحيان.
بدأ التآكل يفت في هيكل الكنيسة الغربية القديمة لما غلبت المسيحية الحديثة وأزاحت الكهنوت جانبًا، وخلا الميدان في الأقطار التي دانت للتعصب البروتستانتي لجولات تالية. وأتمت الفلسفة الجديدة عملها بنشاط أكبر، فاتخذت الدين وقصص الأنبياء والقديسين موضوعًا للفكاهة، وطلَّقت الإرث الكلاسيكي طلاقًا بائنًا. وبينما كانت فلسفة التنوير تذيع مبادئ المساواة والعدل والحرية والخير والجمال، وتتلقف آذان العامة هذه الدعوة الفاقعة فتودعها صميم القلب ولباب العقل، كانت مدارس الشك تهوي بقبضتها المعدنية على كل ما أحاط بالإنسان وعدَّه من البديهيات منذ القدم. ومن عواقب الشك الأوروبي العنيف الذي كاد يخنق الحضارة الغربية في طور حداثتها أن جميع ما ادعته الطبقة الحاكمة من حقوق طبيعية تستأهل بموجبها الامتياز والحظوة سقطت مع أول زفرة عصفت بها ريح الشك.

ورغم أن الفقر قد جر أذياله مهزومًا مدحورًا في أوروبا الغربية منذ عقود، والتنمية الاقتصادية تؤتي أكلها في الأمم التي تليها جنوبًا وشرقًا، والعلم يتمخض عن عالم جديد يعد بالخير الكثير، فلم تتحقق المساواة الاقتصادية بوصفها مثالًا يوتوبيًا، لا نتيجة حتمية للتطور الاجتماعي. لقد خابت الماركسية في إثبات نظريتها عندما تواضع لها الواقع وانبسطت الأرض لفرض إرادتها، لكن الرأسمالية كذلك لم تصلح من نفسها ولو زعم الزاعمون. ولم تحقق حكومات الولايات المتحدة الحلم الأمريكي التي أخذت تمني به شعبها في محنتها تجاهد العملاق الشيوعي، ولا يزال الرأسمالي الغربي يكدس الربح وينعم بمتع الحياة العصرية بفضل من كسب موظفيه الضئيل بالقياس. ويسِّجل الاستياء في كل سحنة تطالعك في الأمم الوسنانة، وتطفح الأنفس بالقرف بعد خيبات الربيع العربي. ولا يعرف الرجل العربي أيقدم شكواه من فساد سادته ويلعن الطغيان الشرقي، أو حقده على الغرب الذي استقر عاليا أرستقراطيةً عالمية ويمني النفس بالمساواة معه في المستقبل البعيد. ولا عجب أن الإنسان الشرير بالسليقة يُضن عليه بالبحبوحة واليسار أن يرضى بالفقر إذا التقمَ الكل في جوفه، بالانتكاس بعيدًا إلى الشيوعية البدائية، ليس هو في فردوس الشيوعية المتقدمة، لا وليس في عالم يشح بالفرص ويؤرجح طالب المنزلة العالية الذي انقطعت منه الأسباب، بل في أرض يتساوى فيها الجميع بِخصاصتهم!